تُعد الرقابة والمحاسبة، من أهم بنود ديمقراطيات الدول التي تطبقها بنسب عالية، كما تدعيها دول وأنظمة سياسية عديدة، لاسيما في بلداننا بغية إضفاء المشروعية لنظام الحكم، واستحصال المصداقية السياسية. ولعل في مقدمة هذه الدول، تلك التي يجرّب فيها "الاسلام السياسي" حظه في الحكم، فهو يجد أن إظهار الحرص على الرقابة والمحاسبة، يمثل صك براءة من الانحراف نحو الديكتاتورية والاستبداد.
والرقابة هنا، تعني - بكل بساطة- أن تخضع الاحزاب السياسية الحاكمة، أو احدهما ممن يحظى بالقدرة على تشكيل الحكومة بأغلبية كبيرة، الى المسائلة والمحاسبة من لدن اطراف عديدة في الدولة، سواءً كانت مؤسسات وهيئات رسمية مثل القضاء والنزاهة والبرلمان، او من منظمات المجتمع المدني او من الاعلام وغيرها. وهنا يعني تقييد لحرية عمل هذه الاحزاب وعدم أخذ حريتها كما تريد في التصرف بالإمكانيات والقدرات وتحكيم افكارها ومنهجها بالشكل الذي تخطط له. وهذا الاصطدام لا مفر منه، عندما يفكر الاسلام السياسي بالسلطة والحكم قبل التفكير بالدولة والمجتمع.
تضليل الرقابة
من اجل ان يستمر اهل الحكم بممارسة عملهم بشكل سلس دون منغّصات او عقبات، فانهم يبتكرون الوسائل لتحاشي الاصطدام بين شعاراتهم ذات البعد الديني، مثل المحاسبة والامانة والصدق وغيرها، وبين ما يقومون به أعمال وتصرفات تبتعد في كثير من الاحيان عن هذه الشعارات، لسبب أو لآخر.
لنأخذ مثالاً حيّاً وقريباً من العراق "الديمقراطي" حيث شهد نظاماً برلمانياً بعد غياب دام أكثر من نصف قرن، تخللتها حكومات الانقلاب العسكري والديكتاتورية الفردية. وعندما هبّ رجالات الاسلام السياسي حاملين لواء الديمقراطية، قال قائل منهم من على شاشة التلفاز: "لدينا أفضل ديمقراطيات العالم؛ ان المسؤول في الدولة يحاسبه نواب البرلمان، وهذا معمول به في العالم، بينما عندنا، فان هذا المسؤول محاسب أمام نواب البرلمان، وايضاً أمام حزبه والكتلة البرلمانية التي ينتمي اليها..."!
بهذا الكلام المعسول، تم تمرير النظام البرلماني وجعله البديل الأفضل للحكم في العراق، لكن ما لبثت الاحزاب السياسية المتنفذة، وبينها أحزاب الاسلام السياسي، أن انكشفت اوراقها للناس، وتبين أن لا سلطة رقابية حقيقية على الوزير والنائب والمسؤول في الدولة؛ لا من البرلمان ولا من القضاء، ولا من الحزب نفسه. بل لاحظوا العكس تماماً؛ فمن انكشفت سوءاته بملايين الدولارات، بين هدر واختلاس، تمت تبرئته او تغييبه عن الساحة، وبالنتيجة إبعاده عن الانظار بأي شكل من الاشكال. حتى لم يشهد الشعب العراقي حالة واحدة لمحاكمة حقيقية لمختلس او حتى مخطئ، أمام البرلمان والقضاء ومطالبته بالتعويض وإعادة ما سرقه من أموال طائلة، إنما الحاصل؛ كلام طويل وعريض وتشهير بالارقام ثم تنتهي العاصفة بسلام.
لكن لماذا يحصل كل هذا؟ ولماذا يخفق الاسلام السياسي في الوفاء بوعوده الديمقراطية؟
سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه القيّم "الفقه السياسة" يجيب عن بعض الاسباب في معرض تحذيره من مخاطر الاعتماد على الديمقراطية كنموذج لنظام الحكم، ويذكر معايبها، ومنها ما يتعلق بمسألة المراقبة والمحاسبة، ويشير الى نقطتين:
الاولى: "ان الخطأ يضيع – غالباً- بين الفئات والاحزاب في السلطة التشريعية والتنفيذية، حيث ان كلامهم يلقي الخطأ على الآخر، فاذا عقدت صفقة اسلحة، وظهر خطأ ذلك، قال الكل: ان الآخر هو السبب، فلا يشخص المجرم حتى ينال عقابه".
والثانية: ان التنافس بين الاحزاب والكتل البرلمانية، توجب عدم تقدم الامة حيث ان كل فئة تتربص بالاخرى بان لا تتقدم، وان تظهر عيوبها، وخوفاً من الوقوع في المشكلة، لذا تتجمد الفئات، بل احياناً تنتكص فترفع اليد عن مشروع حيوي ابتدئته خوفاً من توجيه النقد...".
مأسَسَة الدولة لا تسييس المجتمع
عندما نسمع ونشاهد احياناً التجارب الناجحة نسبياً لديمقراطيات بعض الدول في العالم، حيث الاحتكام الى القانون والفصل بين السلطات والعلاقة الودية بين جماهير الشعب وبين المسؤولين الحكوميين، نعرف أن هناك التزام خيار "دولة المؤسسات"، بينما في معظم بلادنا – إن لم أقل جميعها- الالتزام بخيار تسييس المجتمع وإبعاده عن مؤسسات الدولة. فعندما يكون هم الساسة، الوصول الى الحكم، من خلال مجلس النواب او مجلس الوزراء او حتى الدوائر الحكومية التابعة، وما تدره من امتيازات ومكاسب مادية. فان التفكير في بناء المؤسسات، أو دعم ورعاية من يعمل في هذا الاتجاه، يمثل نقط تقاطع مع توجهاتهم السياسية والفكرية، لان أول مهمة لهذه المؤسسات الثقافية منها والاجتماعية والاعلامية، إعمال الرقابة والمحاسبة على هؤلاء الساسة. من هنا نلاحظ أن أحزاب السلطة، وتحديداً أحزاب الاسلام السياسي تلجأ الى التسييس والأدلجة في الاوساط الاجتماعية. وهذا من شأنه ان يرحل الحديث عن الاخطاء والاسقاطات، او حتى حالات السرقة اللصوصية في وضح النهار، كما يجري في العراق وبعض الدول الاخرى، حيث ان فئة من المجتمع على استعداد لأن تدافع بقوة عن الفئة الحاكمة وسوق التبريرات لسياساتها، حتى وإن ثبت على أحد رموزها بالدليل القاطع، سرقة أموال الشعب وانتهاك حقوقه. بناءً على معادلة "السيئ والأسوء" وهكذا....!
إن هكذا وضع من شأنه ان يزيد الانقسامات في المجتمع ويثير فيه الحساسيات بين هذا وذاك، فهناك مستفيد ومقرّب، وآخر مُبعد او مهمّش او انسان عادي لا علاقة له بالاحزاب والشخصيات المتنفذة، فتكون حقوق هذا الصنف من المجتمع، مضيعة ومسلوبة، ثم يتحولوا الى مجرد أرقام على الارض، والنتيجة نشوء جديد للديكتاتورية والاستئثار بالسلطة والمال العام.
فهل هذا هو نهاية الطريق...؟!
بالطبع كلا؛ فان الاسلام الذي ابتعد عنه الاسلام السياسي – مع الاسف- يقدم حلولاً بارعة تضمن سلامة الديمقراطية أو كما يسميها سماحة الامام الراحل بـ "الديمقراطية الاستشارية". ففي كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" يتحدث سماحته عن أقرب الطرق نحو الديمقراطية الحقيقية و"الابتعاد عن الديكتاتورية إطلاقاً" عندما يكون للأمة ثلاثة انتخابات:
الاول: انتخابات السلطة العليا من الفقهاء الذين هم مراجع تقليد الأمة – حقيقةً لا صوريا او أجوائياً- فيكون لهم مجلس الشورى، فاذا كانوا في مجلس الشورى، تزعموا الحكم والتقليد معاً.
الثاني: انتخاب رئيس الدولة، مما يصطلح عليه اليوم بـ "رئيس الجمهورية"، ولعل الافضل ان يسمى "رئيس الدولة الاسلامية".
الثالث: انتخاب "مجلس الامة" لنواب الأمة في انتخابات حرة.
وعلى هذا – يضيف سماحته- يكون الفارق بين الحكم الاسلامي، والحكم الديمقراطي بما يلي:
1- وجود سلطة عليا من الفقهاء.
2- تقييد الحكم بأن يكون في الإطار الاسلام، ولذا فمجلس الامة إنما هو للتطبيق لا للتشريع.
ويختم سماحته بالاستنتاج؛ بان "الحكم الاسلامي أفضل من الحكم الديمقراطي، حيث تشرف الامة على السلطة أولاً: من ناحية مراجع التقليد، وثانياً: من ناحية نواب الامة ورئيس الدولة. بينما الحكم الديمقراطي فيه اشراف من الناحية الثانية فقط. ومن الواضح ان وجود وكيلين لإنسان مشرفين على أموره، افضل من أن يكون له وكيل واحد.
والفائدة التي نستخلصها من فكر سماحة الامام الراحل في هذا الاطار؛ ان مسألة المحاسبة والمراقبة ستكون لها مصداقية حقيقية على الارض، لأن مرجع التقليد ليس كالحزب له مصالح خاصة يحققها من خلال وجوده في الحكم، سواءً في سياساته او في افكاره ومنهجه الذي يحاول دائماً تمريره في المجتمع، إنما يأخذ المرجع مصلحة الانسان الفرد والمجتمع في الاولوية، ويضعها ضمن إطار القيم والمبادئ والاحكام التي تضمن له كامل حقوقه، وتمنع عنه التجاوز والانتهاكات، لذا تكون العلاقة بينهما، علاقة ودّية وصميمية وبناءة.
اضف تعليق