ان مسألة استبدال منهج بآخر وفق مبدأ اللعن والإقصاء، لن يكتب له النجاح إلا بمشاركة عامة، لا تنصر الدين والأخلاق فقط –كما يتصور البعض- وإنما تنصر العقل، ويكون الانسان قد رحم نفسه بنفسه من خلال اتخاذ الموقف الحازم والمبدأي من كل ما هو يتعارض مع العقل والفطرة الانسانية...

((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ))

سورة البقرة، الآية:159

في المواجهة بين جبهتين، تتنوع اساليب الحرب، ثم تتطور مع مرور الزمن، سواءً الاساليب المباشرة كالسلاح الناري والمعدات العسكرية، والى جانبها الحرب النفسية المعتمدة على سلاح التضليل والإشاعة، أو الاساليب غير المباشرة التي هي الاخرى شهدت تطوراً بشكل راح يوازي في خطورته وتأثيره الحرب المباشرة، من خلال الترويج لثقافة مغايرة داخل البلد المستهدف تجعل افراده يتجهون في طريقة حياتهم وسلوكهم وتفكيرهم بعيداً عن وهويتهم وثقافتهم بما يسمى؛ "الحرب الفكرية".

وعندما تكون المواجهة والحرب غير متكافئة، كما هو حال بلادنا الاسلامية مع القوى الكبرى في العالم، فان الرد يكون من سنخ الاسلوب، ذو سمة ثقافية يوصي باجتناب كل ما يتعارض مع الثوابت والقيم، بالتحريم الشرعي تارةً، وبالدعوة للمقاطعة ثقافياً بما يُسمى في المصطلح الديني "التبرؤ"، أو "اللعن"، وهذا المصطلح الذي أثار جدلاً واسعاً في الاوساط الثقافية بالعالم، لما يتوهمه البعض بأنه ذو دلالات عنيفة، ربما بسبب "رنّة الكلمة"، او لأنه يتعارض مع مفهوم التسامح والتعايش.  

سلاحٌ يقبله العقل

عندما نتحدث عن الحرب غير المتكافئة فهذا يعني بالضرورة وجود ظالم ومظلوم، وحق مقابل الباطل، وقد أكد العلماء غير مرة على أن اللعن لا يعني السبّ او الشتم بأي حال من الاحوال، ولا يعبر عن حالة "استضعاف"، بقدر ما يمثل موقفاً حازماً من الطرف المقابل، يضعه في خانة الباطل والبغي والعدوان فيكون من خلال اللعن "مطروداً من الرحمة الإلهية"، ثم من الكيان الاجتماعي بأكمله، كما هو تفسير العلماء والفقهاء، "فكما أن العقل يحكم بحُسن رد الوديعة، ويحكم بحسن حفظ الأمانة، ويحكم بقبح الظلم، وحسن العدل، فانه يحكم بحسن، بل وجوب اللعن؛ أي إبعاد المجرم، او الارهابي عن موقع المسؤولية، ومن موقع الرحمة، ومن الموقع الاجتماعي المتميّز". (بحوث في العقيدة والسلوك- آية الله السيد مرتضى الشيرازي).

وثمة رأي يذهب الى استبدال لعن من يمارس الحرب النفسية بوسائله التي يعدونها ناجحة، على صعيد الإعلام والثقافة والنشر، وأن نكون مثلهم، بل ونسبقهم في أعمالهم لنتخلص من حالة التخلف والشعور المزعج بالضِعة،! لكن حسبنا سيرة أمير المؤمنين، عليه السلام، وكيف رفض طلب "النصر بالجور"، وأن يتشبه بأفعال معاوية الذي كان يشتري ولاء و ذمم زعماء القبائل بالاموال لتعزيز جبهته العسكرية ضد جيش أمير المؤمنين، فإن حصل هذا –حاشا للإمام- لن يكن من حقنا لعن معاوية والتبرؤ من منهجه وأفعاله، ومن هو على شاكلته في الوقت الحاضر.

إن من يتحدث عن التميّز والتكامل الثقافي، والتفوق الحضاري، عليه بذل المزيد من الصبر والصمود أمام منغّصات الظروف، وما يبدو أنه نوعاً من التخلّف عن ركب التطور التقني والعلمي، بالتمسك بمبدأ الحق المطابق لمنطق العقل، رغم كلفته الباهضة، ومنها؛ رفض ما يناقضه (الباطل)، و رفض الضلال والتضليل، لتكريس الهدى والفضيلة في الحياة، وهي معادلة أرسى دعائمها القرآن الكريم للبشرية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، وقد بحث العلماء مسألة اللعن والإقصاء عقدياً في شهادة الإسلام: "لا إله إلا الله"، بمعنى أن الايمان بالله الواحد الأحد لن يكتمل إلا بالكفر والتبرؤ بكل من يدّعي لنفسه الألوهية المعنوية –كما يحصل اليوم- وأنه الأعلى والقادر على كل شيء. 

ليس من الصدفة أن يتوصل العالم اليوم الى حقائق غابت عنه طيلة قرون من الزمن، فعلى الصعيد التاريخي والعقدي، يقرّ المسلمون والعالم أن ما جرى عام 61للهجرة في صحراء كربلاء من معركة بين الامام الحسين، وأهل بيته، والجيش الأموي، بل والنظام الأموي برمته، هي معركة حق ضد باطل، ومعركة قيم دينية وانسانية أمام قيم جاهلية ترفض ما جاء به الاسلام من تحضّر وتقدم، وأن أمير المؤمنين، وأبناؤه، عليهم السلام، وقبلهم؛ الصديقة الزهراء، عليهم السلام، كانوا على حق، فيما كان من ظلمهم وسلب حقوقهم على باطل.

وعلى الصعيد الثقافي نشهد اليوم، بفضل وسائل الاعلام المتطورة، انتشار اخبار وتقارير عن مآلات الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي والانظمة السياسية التي كبّدت البشرية طوال مائة سنة، خسائر فادحة، ومظالم ومعاناة لا تُحد، بدءاً بالديمقراطية التي ولّدت ديكتاتوريات في السياسة والإعلام والاقتصاد والأمن، ثم الليبرالية الاقتصادية التي أعطت الحق لمصالح الفرد الثري وتجاهلت الفقير، فأبتلي العالم كله بعشرات الملايين من الفقراء والعاطلين عن العمل والفاقدين للمسكن، وأكثر من هذا؛ هدم كيان الأسرة والعائلة تحت مطرقة العمل والمال، وبالمحصلة؛ غرق العالم في أزمات اجتماعية ونفسية مريعة لم يشهدها التاريخ البشري نظيراً لها، مثل؛ الإدمان على المخدرات، والانتحار، ومرض الكآبة، والاتجار بالبشر، والعزوف عن الزواج والانجاب.  

البديل الأفضل والمغيّب 

هل لعن الباطل والانحراف وكل ما يلحق الأذى بالبشرية، كافياً لإحلال الحق وتحكيم قيم الدين والأخلاق؟ 

إن العمل على تقديم البديل الأفضل والأكمل هو الذي يفسّر ضرورة اللعن والإقصاء لما هو أسوء، وقد كتب وتحدث عن هذا العلماء والمفكرون طيلة القرن الماضي، وخرجوا بدعوات وتوصيات من منطلق النوايا الحسنة والحرص على مصير الأمة والعالم، بيد أن المؤسف عدم تحول كل هذا الى برنامج عملي في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ليعرف الناس أن واقعهم المأساوي ليس قدرهم، إنما يوجد بديل أفضل.

وبسبب العجز الذاتي او ظروف متشابكة اخرى أدى بقاء تلكم الافكار والنظريات في بطون الكتب، فان مآلنا صار الى تقبل الأمر الواقع المفروض علينا بنمط الحياة المستورد، والافكار الهجينة (الخليط بين الأصيل والدخيل)، بل وأمضّ ما بلغناه؛ عدم التفكير مطلقاً بنفي الآخر (اللعن)، او حتى التحسس منه ومما يروج له على أقل التقادير، بل العكس تماماً؛ التفكير بكيفية اللحاق به، والاستفادة من إضاءاته ومنجزاته! بسبب الفراغ الذي نعيشه، وهو بدوره أوهم البعض بأن اللعن وإقصاء الآخرين يمثل سلاح العاجزين والمتخلفين عن ركب الحضارة والتقدم.

إن حكم العقل والفطرة يدعو كل سويٍ الى نبذ الجهل والفوضى والظواهر اللاأخلاقية، فلا أحد في الشارع والاماكن العامة يستسيغ هذا النمط من الحياة، وإذن؛ لابد من إقصاء هذه الحالة ونبذها من الساحة الاجتماعية، وبنفس القدر من الساحة الاقتصادية، بل وحتى السياسية –في مرحلة لاحقة- ليتسنّى لما هو نقي وطاهر أن يحل محل العكِر والسيئ، "فمن الضروري ملاحظة أن فلسفة اللعن لا تحرك الانسان بمفردها، لأن الفلسفة أمرٌ جامد، والجامد لا يحرك الانسان، بينما تحركه العواطف السليمة من جهة، ويحركه الثواب، ويردعه العقاب من جهة ثانية"، يقول سماحة آية الله الشيرازي في مؤلفه المشار اليه. 

وعليه؛ فان مسألة استبدال منهج بآخر وفق مبدأ اللعن والإقصاء، لن يكتب له النجاح إلا بمشاركة عامة، لا تنصر الدين والأخلاق فقط –كما يتصور البعض- وإنما تنصر العقل، ويكون الانسان قد رحم نفسه بنفسه من خلال اتخاذ الموقف الحازم والمبدأي من كل ما هو يتعارض مع العقل والفطرة الانسانية لتمهيد الأرضية لما هو أفضل له ولحياته وآخرته ايضاً. 


اضف تعليق