q
ماتزال الاسباب غير واضحة لمغادرة المرجع الديني الأعلى في زمانه؛ السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، مدينة النجف الاشرف باتجاه مدينة سامراء واتخاذها مركزاً لإدارة الحوزة العلمية، وايضاً شؤون المسلمين في العالم، بيد أن وجود هذا القائد الفذّ الذي نعيش هذه الايام ذكرى وفاته، في مدينة مثل سامراء...

"بسم الله الرحمن الرحيم: اليوم استعمال التنباك والتوتون بأي نحو كان بحكم محاربة إمام الزمان، عجل الله فرجه".

نصّ فتوى المرجع الأعلى الميرزا محمد حسن الشيرازي لتحريم التبغ في ايران

ماتزال الاسباب غير واضحة لمغادرة المرجع الديني الأعلى في زمانه؛ السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، مدينة النجف الاشرف باتجاه مدينة سامراء واتخاذها مركزاً لإدارة الحوزة العلمية، وايضاً شؤون المسلمين في العالم، بيد أن وجود هذا القائد الفذّ الذي نعيش هذه الايام ذكرى وفاته، في مدينة مثل سامراء، تزامن مع احداث عالمية كبيرة صارت فرصة تاريخية ليعرف العالم، وتحديداً دول كبرى آنذاك مثل؛ روسيا القيصرية وبريطانيا المتعالية استعمارياً، أن البلاد الاسلامية، ربما تكون خالية من القدرات العلمية والانظمة السياسية المتماسكة، لكنها تمتلك قادة شجعان من ذوي العلم والحكمة والرؤية الدقيقة والنافذة للأمور، مثل المجدد الشيرازي، ولم تتحول فتوى تحريم التبغ في ايران، او ما يسمى "فتوى التنباكو"، الى العنوان الأبرز لشخصيته لولا الشخصية الأبوية السابقة على ذلك، و رؤيته الحضارية في التعامل مع الواقع الاجتماعي، فقد كان يعلم أن مدينة سامراء ليست مدينة النجف الأشرف، ولا مدينة كربلاء المقدسة، فرغم وجود مرقد إمامين من أئمة أهل البيت، عليهم السلام؛ الامام الهادي، والامام العسكري، فان الغالبية من سكان المدينة هم من أهل السنّة.

انتقال الحوزة العلمية الى سامراء، أوجد فرصة لبلورة أبوة اسلامية كانت الأمة بأمسّ الحاجة اليها في وقت كادت أن تنقسم شقين ضمن اصطفاف سياسي بتوظيف طائفي، حيث كانت الدولة القاجارية في ايران تنتمي الى المذهب الشيعي الاثناعشري، بينما الدولة العثمانية كانت تتبنى المذهب السنّي الحنفي، فجاء قرار المرجع الديني الأعلى الإقامة في سامراء في السنوات الاخيرة من حياته ليقدم الى المسلمين، وتحديداً أهالي هذه المدينة النموذج الملموس للقيادة الاسلامية وفق المعايير الرسالية، وذلك خلال سنوات وجوده في هذه المدينة من عام 1291 ولغاية 1312للهجرة، تاريخ وفاته، أي بوافع واحد وعشرين سنة، عاشر فيها أهالي سامراء وعاش بين ظهرانيهم قائداً يحمل هموم وتطلعات الأمة في كل مكان، وذلك على مسارين؛ الاول: السياسة، والثاني: الاجتماع.

غلق المنافذ أمام الغرباء

من ذكاء وحكمة رب الأسرة الناجح، غلق جميع منافذ التسلل في بيته بما يمنع الآخرين من التلصص على ما يدور، او التدخل في القضايا الداخلية للأسرة، وتحديداً الحياة الزوجية، مهما كانت المشاكل باستثناء الزوايا الحرجة التي يرشدنا اليها القرآن الكريم دفعاً للانفصال.

هكذا كان المرجع الديني الأعلى في مدينة سامراء التي كانت تشهد بين الحين والآخر مشادات كلامية ومشاكل بين الافراد، مثل أي مدينة اخرى بالعالم ذات تنوع طائفي وديني، وذكرت المصادر أن شجاراً حصل بين رجلين؛ أحدهما من الشيعة، وآخر من السنة، واشتدّ النزاع بينهما فتدخل آخرون في الصراع ممّا ادى الى تفاقم الموقف، و وصل الأمر الى أن بعض الجُهّال قاموا برشق بيت السيد المرجع الشيرازي بالحجارة، والأساءة اليه، فشاع الخبر في انحاء البلاد، وكاد أن يتطور الموقف الى نزاع مسلح وفتنة طائفية لو لا حكمة وتبصّر السيد المجدد وقيامه بتطويق الازمة وتهدئة الحالة بنفسية القائد الأب، الحريص على مصلحة الامة والدين، هنا حاول البريطانيون والروس –حسب المصادر- استغلال الموقف لغايات سياسية، فقام القنصلان البريطاني والروسي في بغداد بالسفر الى سامراء لاعلان تأييد حكومتيهما للسيد الشيرازي، والتنديد بالسياسات العثمانية في العراق، وعندما وصل القنصلان الى سامراء رفض المرجع الشيرازي استقبالهما والاجتماع بهما وأبلغهما بالواسطة أن ليس هناك ما يدعو للقلق لقد حصل شيء ما بين ابنائنا ونحن قادرون على تجاوزه بالحُسنى، ولسنا بحاجة لمساعدة أحد.

وعندما علم والي بغداد العثماني بها الموقف النبيل توجه الى سامراء ومعه كتاب شكر من السلطان العثماني، وحالما وصل الى سامراء استقبله السيد المرجع الشيرازي، حيث أعرب له الوالي عن آيات شكر حكومته وعن تقديره له على مساعيه الحميدة في تجنب البلاد الاسلامية من الوقوع في فتنة طائفية لاتحمد عقباها، وكادت أن تكون كارثة على الحكومة العثمانية، خاصة وانها كانت في صراع خفي ومعلن مع الحكومة البريطانية آنذاك.

ومما ينقل عنه، رحمه الله، فيما يتعلق برؤية هلال عيد الفطر السعيد، وهي المسألة الخلافية المستدامة منذ زمن بعيد وحتى اليوم، ففي الوقت الذي تعتقد الحوزة العلمية بضرورة وجود شاهدين عَدلَين من المؤمنين (الشيعة) لاثباته، حصل أن زاره وفد من علماء الدين السنة في أواخر شهر رمضان المبارك، وقالوا له: تحققت لدينا رؤية الهلال، فما تقولون أنتم؟ فما كان من السيد إلا أبدى تأييده لشهادتهم فوراً، وعدّ يوم غد، يوم العيد، مما أثار المحيطين به، وما اذا كان لديه رأي جديد بخصوص طبيعة شهود الرؤية، فقال لهم: كلا، ليس لديذ رأي جديد، "إنما كنت خارجاً عصر هذا اليوم على دابتي على حافة نهر دجلة، وفي لحظة الغروب أبصرت بهلال العيد، وأردت ان أضم شهادة علماء السنّة الى شهادتي المكنونة في نفسي لنخرج برأي موحد لرؤية هلال عيد الفطر السعيد.

وفي مقالات سابقة عن حياة هذا المرجع والقائد الفذّ، وايضاً عن مدينة سامراء، اشرنا الى جهوده في إحياء هذه المدينة التي كانت لسنوات طوال عبارة عن قرية صغيرة ومنسيّة، وتحويلها الى حاضرة علمية ومدينة عامرة بالأسواق التجارية، والمراكز الصحية، والمدارس، والمكتبات، والجسر الشهير على نهر دجلة، الذي شيّده المرجع الشيرازي على نفقته دون تدخل من الدولة العثمانية.

فتوى تحريم التبغ وتأديب الاستعمار البريطاني

رغم وجود مظلة الدولة العثمانية على البلاد الاسلامية، بيد أن دولاً مثل؛ ايران كانت تتمتع بنوع من الاستقلالية في إدارة الحكم بفضل السلالات الملكية المتعاقبة على حكم ايران منذ زمن بعيد، بيد أن هذا لم يبعد ايران عن الأيادي البريطانية المتوغلة في كل مكان بالعالم، وكانت لندن تبحث في كل الوسائل لايجاد موطئ قدم لها في ايران من خلال التقرّب الى الشاه، او رئيس وزرائه والحاشية من حوله، لتكريس النفوذ الاقتصادي والسياسي ما يساعدها على الوقوف بوجه التمدد الروسي –القيصري في المنطقة آنذاك، إذ كان ايران الجسر الوحيد لها نحو "المياه الدافئة" والمصالح الكبرى.

ومن هذه المحاولات؛ إغواء الملك ناصر الدين شاه خلال زيارة له لبريطانيا بالتوقيع على معاهدة استثمار التبغ في ايران لمدة خمسين سنة، تمنح ايران بموجبها حق امتياز انتاج وتسويق التبغ في ايران لشركة بريطانية تُدعى "ريجي"، وكان صاحبها من المقربين لرئيس الوزراء البريطاني حينها؛ اللورد سالزبوري، وفي عام 1890 وقع الشاه الايراني على الاتفاقية التي تنصّ منح الشاه رشوة مقدارها 15الف جنيه استرليني، كما يكون لايران 25في المئة من صافي ارباح الشركة.

بالمقابل تنتزع الشركة حق بيع وشراء التبغ والمنتجات المرتبطة به من أيدي الإيرانيين، في وقت كان فيه نحو 20 في المئة من الإيرانيين يعملون في قطاع التبغ، و بمقتضى هذه الاتفاقية تشتري الشركة المحتكرة وحدها كل المحصول من المزارعين، كما بات على تجار التبغ الحصول على إذن من الشركة صاحبة الامتياز والدفع فورا لها.

شعور الايرانيون بالمهانة من آثار هذه الاتفاقية على عملهم، ورزقهم، دفعهم للاعراب عن غضبهم واستنكارهم، فشهدت مدن كبرى مثل؛ شيراز وتبريز وطهران مظاهر احتجاج من قبل التجار وعلماء الدين وايضاً المزارعين، علماً أن حوالي 20 في المئة من الايرانيين آنذاك كانوا يشتغلون بزراعة التبغ، بما يعني أن ملايين من الناس ستكون لقمة عيشهم بيد البريطانيين.

وصلت التقارير الى سامراء وهي تحمل مخاوف من خطر تحول المواطن الايراني المسلم الى عبد طيّع بيد تاجر بريطاني، الامر الذي أثار حفيظة المرجع الشيرازي فارسل برقية تحذير ودعوة للانسحاب من هذه الاتفاقية الى شاه ايران، بيد أن الاخير لم يحفل بها، واستمرت الاحتجاجات، واستخدمت الشرطة العيارات النارية لتفريق المتظاهرين.

وبموازاة الغليان الشعبي في ايران، كانت سامراء هي الاخرى في حالة استنفار شديدة من قبل الحوزة العلمية وزعيمها المرجع الشيرازي، فقد جرت مداولات دقيقة ومناقشات مستفيضة عما يجب فعله لمواجهة هذا التهديد الاستعماري، ومع أقل الخسائر في الارواح، وبعد مضي حوالي اسبوعين –حسب المصادر- من المناقشات بين العلماء والفقهاء في سامراء، أصدر المرجع الديني الأعلى فتواه الشهيرة بتحريم استخدام التبغ في ايران، وما هي إلا أيام وتنتشر الفتوى في النار في الهشيم في جميع أرجاء ايران، فأغلقت محال بيع التبغ، وتم تحطيم جميع الارجيلات في المقاهي، حتى بلغ أصداء الفتوى داخل أروقة القصر، عندما عجز الخدم عن وجود ايرجيلة واحدة للشاه المولع بتدخين الارجيلة، فجنّ جنونه، وسأل عمن يقف خلف هذا، فأجابوه بأن حريمه قمن بتكسير جميع الارجيلات في القصر امتثالاً لفتوى المرجع الأعلى بتحريم استخدام التبغ والدخان.

أجبر الشاه على إلغاء الاتفاقية والانسحاب منها ليعلو شأن الشعب الايراني، وتنتكس صورة البريطاني المغرور والمتغطرس في العالم، فالقضية لم تكن مواجهة عسكرية، ولا أزمة سياسية بين دول حتى تكون الخسارة مبررة، إنما ضربة موجعة تتعرض لها الدولة التي لا تغيب عنها الشمس من شخص ضئيل الجسم، منحني الظهر، لا يملك قوة مالية ولا عسكرية، يسكن في مدينة صغيرة لا يكاد العالم آنذاك يحفظ اسمها او يجدها على الخارطة، ولكن موقفه الشجاع و تحمله المسؤولية الشرعية والاخلاقية أمام الله والاجيال مكنه لأن يضع بصمته الكبيرة في ناصية التاريخ كأحد القادة الأبطال الحريصين على مصير أمته وكرامتها.

و لمسك الختام نشير الى أن المرجع والمجدد الشيرازي لم يعش طويلاً بعد هذه الفتوى ففي نفس السنة التي اصدر فيها الفتوى؛ 1312، أغمض عينيه مودعاً الحوزة العلمية وجموع المسلمين، ومدينة سامراء، ليلتحق الى جوار ربه، فكان يوم الوفاة لا مثيل له في العراق بأسره، حيث حمل جثمانه على الأكف من سامراء الى النجف الأشرف، وغاصت المدن داخل وخارج العراق في عزاء لأيام طوال حزناً على فقدانهم هذا المرجع الديني الفذّ والقائد البطل.

اضف تعليق