أندريس شلايشر

 

باريس ــ حتى الثورة الصناعية لم يستطع لا التعليم الرسمي ولا التقدم التكنولوجي إحداث تغيير يذكر بالنسبة للغالبية العظمى من الناس. وكلما ازدادت وتيرة التقدم التكنولوجي فشل التعليم في مواكبته مُخَلِفا أعدادا ضخمة من الناس تصارع للتكيف مع عالم سريع التغير ومُرَسخا لمعاناة واسعة النطاق.

واحتاجت السياسية العامة لقرن كامل لتوفر بصعوبة للجميع إمكانية التعليم. وشهدت العقود المنصرمة خطوات ملموسة لتحقيق هذا الطموح في أرجاء العالم. ولكن، في عصر يتجاوز فيه الابتكار التكنولوجي مجددا التعليم، لا يجب الاكتفاء بمضاعفة الجهود الرامية إلى توفير فرص للجميع للتعلم وحسب، وإنما أيضا لاكتسابهم مهارات جديدة لمواجهة عالم تزداد فيه التقلبات ومظاهر غياب الاستقرار.

لقد تم التوسع إلى حد بعيد في حصول الناس على التعليم. ولم يعد العالم ينقسم انقساما حادا إلى بلدان ثرية رفيعة التعليم وأخرى فقيرة يتلقى أبنائها تعليما سيئا. وتظل جودة التعليم مؤشرا قويا مؤثرا على الدخل القومي على المدى البعيد، ولقد بدأت بلدان كثيرة من ذوي الدخل المنخفض الاستفادة من التعليم في خدمة التنمية الاقتصادية. وكنتيجة لهذا، فمن بين 80 دولة ببيانات قابلة للمقارنة حول جودة التعليم يفسر تباين الأداء 6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للفرد.

ولا يزال هناك الكثير من العمل ينبغي القيام به ــحتى في البلدان ذات الدخل المرتفع. ولقد نجحت الكثير من البلدان المنتجة للنفط بشكل خاص في تحويل ثرواتها الطبيعية إلى رأسمال واستهلاك حقيقي، بيد أنها فشلت في بناء الرأسمال البشري الذي يمكنه المحافظة في المستقبل على اقتصادياتهم. وإذا سلحت البلدان مرتفعة الدخل من خارج دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية طلابها في أقل تقدير بالمهارات الأساسية جدا، فبوسعهم، كمجموعة، الاستفادة من قيمة اقتصادية مضافة تعادل قرابة خمسة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي الحالي لهم. وحتى مع الموارد الطبيعية الغزيرة لدى هذه الدول، تكمن ثروة أكبر جدا في المهارات غير المتطورة لسكانها.

فللتعليم تأثير أعمق من مجرد تحسين الدخل أو فرص العمل ببساطة، الأمر الذي يفسر اعتباره أحد عناصر مؤشر التنمية البشرية. وفي كل البلدان ذات البيانات القابلة للمقارنة، يعتبر البالغون من ذوي المهارات التعليمية المتدنية للغاية الأكثر احتمالا للإدراج ضمن صفوف المعتلين صحيا، وهم الأقل ثقة في مواطنيهم، وينظرون إلي أنفسهم بوصفهم مفعولاً بهم ــ أكثر من كونهم فاعلين ــ في العملية السياسية. ومن المستبعد في البلدان التي تفشل في تسليح سكانها بالمهارات اللائقة أن يقود التقدم التكنولوجي إلى نمو اقتصادي، بل إن قطاعات واسعة من السكان تتعرض لخطر الانحدار إلى هوامش المجتمع.

ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن التعليم الرسمي لا يكفي وحده لضمان توفر فرص عمل وقدر أكبر من الرفاهية. ففي العديد من الاقتصادات، يعمل الكثير جدا من الخريجين العاطلين عن العمل مع عدد كبير من أرباب العمل الذين لا يجدون عمالا بالمهارات التي يتوخونها. فإذا كان على الأفراد والدول مواصلة جني ثمار التعليم، فعلي صانعي السياسة التركيز على المهارات المطلوبة لتحقيق الازدهار في عالم سريع التغير.

كان التعليم في الماضي يعتمد على نقل المعرفة. أما الآن فيعتمد على تزويد الطلبة بالأدوات اللازمة للإبحار بين موجات عالم يتزايد غموضه وتقلبه. ولسوء الطالع، فإن المهارات الأسهل من حيث تعلمها واختبارها هي أيضا أول المهارات التي يمكن الاستعاضة عنها بالآلات أو استبدالها بمصادر خارجية. وبالتالي فالمعرفة التي تضم آخر ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا تظل مهمة. بيد أن الاقتصاد الكوكبي لم يعد يكافئ العمال على ما يعرفونه (فجوجل يعرف كل شيء)، وإنما يكافئهم على ما يمكنهم صنعه بما يعرفونه.

ويحتاج التعليم إلى التركيز على تحسين الكيفية التي يفكر بها الطلاب والتي يعملون بها وكيفية تبنيهم للتكنولوجيا، والتركيز على تزويدهم بالمهارات الاجتماعية والشعورية اللازمة للتعاون مع الآخرين. وفي الماضي كان المعلمون ينقلون المعرفة بتقسيم المشاكل إلى أجزاء يمكن التحكم فيها ومعالجتها، ومن ثم تعليم الطلاب تقنيات حلها. أما اليوم، فغالبا ما يتم استنباط القيمة بتجميع مقادير ضئيلة متباينة من المعلومات. ولهذا السبب، يحتاج العمال أكثر من مجرد معرفة تقنية، عليهم أن يكونوا مشربين بالفضول، عليهم أن يكونوا منفتحي العقول، عليهم أن يتسلحوا بالقدرة على الربط بين الأفكار التي تبدو غير ذات صلة.

وعادة ما كان الطلاب في نظام التعليم التقليدي يعتمدون على أنفسهم وكان يتم الحكم عليهم فرادى. ولكن بينما تتقدم التكنولوجيا وتعتمد الاقتصادات التي كانت في السابق مستقلة على بعضها بعضا، تزداد أهمية العمل مع الآخرين. ونادرا ما يكون الابتكار اليوم محصلة عمل أفراد يعملون في عزلة، بل غالبا ما يكون ثمرة تبادل وتعاون. وعلى المدارس إدراج هذا العنصر الجديد في مقرراتها الدراسية، وإعداد طلابها للعمل في مختلف البيئات الثقافية وفي عالم تُشْكِل قوامه قضايا تتجاوز الحدود الوطنية.

ويتمثل جزء من الإجابة السياسية على مشاكل التعليم في تشجيع التعلم القائم على اكتساب المهارات في كل ما يتعلق بحياة العمال، بدلا من التركيز على التعليم الذي ينتهي حين يبدأ العمل. وتطوير المهارات يصبح أسهل بإدماج التعلم في مكان العمل. ويسمح هذا أيضا للشباب بتطوير المهارات الصعبة اللازمة للتعامل مع المعدات الحديثة وبتعلم المهارات السهلة ــ بما في ذلك العمل الجماعي والاتصال والتفاوض ــ عبر تجربة تجري في عالم حقيقي. ويتمثل وجه آخر مهم من أوجه العمل السياسي في هذا المجال في التدخل النشط في سوق العمل، بما في ذلك تقديم المشورة والمساعدة في البحث عن فرص العمل، وتقديم إعانات لدعم الشباب من ذوي المهارات المنخفضة، ودعم دخل الناس الذي يسعون بجدية للبحث عن فرص عمل.

وسيتطلب إعادة تجهيز التعليم ليتناسب مع الاقتصاد الحديث إشراك كل قطاعات المجتمع. وعلى الحكومات تصميم حوافز مالية أكثر ذكاء. وعلى محور نظم التعليم أن يرتكز على روح المبادرة وأن يقدم تدريبا مهنيا أفضل. وعلى أرباب العمل الاستثمار في القوى العاملة. وبوسع نقابات العمل مد يد العون لضمان ترجمة التدريب إلى فرص عمل أفضل.

إن التعليم يتحول بشكل متزايد إلى مشروع جماعي، وعلى هذا أن ينعكس في المهارات التي يقدمها للخريجين. ومع ذلك، سيعتمد مستقبل التعليم في نهاية المطاف على الأفراد وعلى استعدادهم للاستفادة من فرص التعلم واستثمارهم في بناء مستقبلهم.

* إحصائي ألماني وباحث في مجال التعليم، والمسؤول عن اختبارات بيسا التي تجريها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التي تعتبر المعيار الدولي الرئيس لقياس جودة الأنظمة التعليمية في البلدان المختلفة

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق