إن معركة الوعي ليست معركة نخبوية، ولا خطابًا ثقافيًا من فوق، بل هي معركة تبدأ من البيت والمدرسة والإعلام والمنبر والجامعة، وتُخاض بالكلمة والنقاش والحوار والقدوة. وكل خطوة صغيرة في هذا الطريق تُحدث فرقًا، لأن الوعي عندما يتحرك، حتى لو ببطء، فإنه لا يعود إلى الوراء...

تبدو المعارك التي يشهدها المجتمع في الظاهر سياسية أو اقتصادية أو طائفية أو سلطوية، لكن جوهر الصراع الحقيقي أعمق من ذلك بكثير. فالميدان الذي تُحسم فيه مصائر الأمم ليس صناديق الاقتراع ولا ساحات التظاهر وحدها، بل هو العقل الجمعي؛ ذلك الحقل الخفي الذي يتشكّل فيه الوعي ويتحدد من خلاله ما يقبله الإنسان وما يرفضه، وما يؤمن به وما يعارضه، وما يدافع عنه وما يتواطأ على بقائه. ومن هنا فإن أهم معركة يخوضها المجتمع في لحظة التحول ليست معركة السلطة، بل معركة الوعي.

الوعي ليس معرفةً فقط، بل هو قدرة الإنسان على أن يرى الواقع كما هو، لا كما يُراد له أن يراه. وفي مجتمعات الانقسام والولاءات المغلقة، يصبح الوعي ساحة يتم العمل عليها بشكل مستمر لإنتاج صورة معينة عن “العدو” و”الطرف الآخر” و”الزعيم” و”الحامي”. وهكذا يتحول الإنسان إلى تابع، لا لأنه لا يفكر، بل لأنه يفكر ضمن حدود رسمها له الآخرون، فيتخيل أنه حر وهو في الحقيقة مقيد بسياج غير مرئي.

في معركة الوعي، لا يُهزم الإنسان بالقوة، بل بالخوف. يُقال له: إنك مهدد إن خرجت من طائفتك، وإنك ضعيف إن فكرت وحدك، وإنك ضائع إن لم تنتمِ إلى جماعة تحميك. وهكذا يتحول الخوف إلى أداة سياسية تُعيد إنتاج الولاءات وتُبرر الفساد، لأن الإنسان الذي يخاف يبحث عن الأمان، لا عن الحقيقة. ومن هنا نفهم لماذا تستثمر الأنظمة الفاسدة في الخوف أكثر من استثمارها في التنمية؛ لأنها تعرف أن المواطن الواثق، الحر، المستقل، يقف في مواجهتها، بينما المواطن الخائف يحتاج إليها.

أما الوعي الحر فهو وعي يعيد الإنسان إلى مركز ذاته. يقول له: أنت قادر على أن تفكر، وأن تختار، وأن تحدد مصيرك، وأن تكون شريكًا في الدولة، لا تابعًا فيها. الوعي الحر لا يلغي الانتماءات، لكنه يضعها في مرتبتها الصحيحة؛ فالوطن أعلى من الطائفة، والدولة فوق القبيلة، والإنسان قبل الحزب.

حين يدرك المجتمع هذه الحقيقة، تتغير قواعد اللعبة السياسية بالكامل. فبدل أن يبحث الناس عن “زعيم يحميهم”، يبحثون عن نظام يحمي حقوقهم. وبدل أن تُقاس قوة المسؤول بعدد أتباعه، تُقاس بكفاءته وقدرته على خدمة الصالح العام. وبدل أن تكون الدولة غنيمة تتقاسمها القوى المتنافسة، تصبح مؤسسة للإنسان، يشارك في بنائها الجميع من دون إقصاء أو امتياز.

هذه هي الدولة الحضارية الحديثة: دولة تنبني على المواطنة والكفاءة والمسؤولية والعدالة. ولا يمكن الوصول إليها إلا من خلال رفع مستوى الوعي الجمعي، لأن التغيير الذي لا يبدأ من الوعي يتحول إلى تغيير شكلي، سرعان ما يعيد إنتاج القديم بثوب جديد.

إن معركة الوعي ليست معركة نخبوية، ولا خطابًا ثقافيًا من فوق، بل هي معركة تبدأ من البيت والمدرسة والإعلام والمنبر والجامعة، وتُخاض بالكلمة والنقاش والحوار والقدوة. وكل خطوة صغيرة في هذا الطريق تُحدث فرقًا، لأن الوعي عندما يتحرك، حتى لو ببطء، فإنه لا يعود إلى الوراء.

إن مستقبل المجتمع يتقرر في هذه الساحة الخفية: إذا ارتفع الوعي، سقط الفساد. وإذا انخفض الوعي، ارتفعت رايات التبعية والانقسام. وهكذا فإن معركتنا اليوم ليست معركة ضد أشخاص، بل ضد منظومة الوعي التي صنعتهم.

اضف تعليق