كربلاء، تلك المدينة التي تتنفس الهدوء والإيمان بين أزقة العتبات المقدسة، بدأت في السنوات الأخيرة تُصاب بعدوى الضجيج المفرط. ظاهرة الـهورن أو منبه السيارة تحولت من وسيلة تنبيه بسيطة إلى آلة إزعاج يومية تُرافقك من الصباح حتى المساء، حتى كادت بعض الشوارع تصحو وتنام على صوته الصارخ الذي يشق سكون المدينة شقًّا...

كربلاء، تلك المدينة التي تتنفس الهدوء والإيمان بين أزقة العتبات المقدسة، بدأت في السنوات الأخيرة تُصاب بعدوى “الضجيج المفرط”. ظاهرة “الـهورن” أو منبه السيارة تحولت من وسيلة تنبيه بسيطة إلى آلة إزعاج يومية تُرافقك من الصباح حتى المساء، حتى كادت بعض الشوارع تصحو وتنام على صوته الصارخ الذي يشق سكون المدينة شقًّا.

في كل ازدحام، وكل تقاطع، وكل لحظة انتظار، لا يغيب الهورن. وكأن السائقين وجدوا فيه متنفسًا لغضبهم، أو سلاحًا يلوّحون به في وجه الوقت والزحام. مشهد مألوف في شوارع كربلاء، لكنه بات مزعجًا حدّ الصداع، خصوصًا لسكان البيوت القريبة من الطرق الرئيسة الذين يعيشون وسط سيمفونية من الأصوات المتقطعة، بعضها مبرر وأكثرها عبثي.

الهورن وسيلة تفريغ

يقول أبو حسين، سائق تكسي منذ أكثر من 15 عامًا في كربلاء:

“الهورن صار مثل النفس.. ما نكدر نتركه! الازدحام خانق، والناس تمشي بالشارع بدون انتباه، لازم أدك هورن حتى ما يصير حادث.”

لكن حين سألناه: “هل ضروري كل هالكثر؟” ابتسم وقال بنبرة واقعية:

“والله مرات مو ضروري، بس نستخدمه من العصبية أو العجلة، يعني مرات الهورن يصير وسيلة تفريغ مو إنذار.” أما أبو مهند، سائق آخر في وسط المدينة، فيعترف بأن البعض “يدك الهورن أكثر مما يتنفس”، مضيفًا:" بعض السواق يحس نفسه بطل الزحام، يعتقد كل ما يدك أكثر يوصل أسرع! بس الحقيقة الهورن ما يفتح الطريق، بالعكس، يزيد التوتر ويخلّي الزحام أعقد.”

صوت يطعن الهدوء

في الأحياء القريبة من الشوارع الرئيسة، كمنطقة باب طويريج أو طريق بغداد، تحوّل صوت الهورن إلى “ضيف ثقيل” لا يغادر. تقول أم عباس، ربة بيت تسكن قرب أحد التقاطعات:

“الهورن صار جزء من يومنا، حتى لو نسد الشبابيك بعدنا نسمعه. والله مرات نحس البيت يهتز من قوة الصوت.”

بينما يضيف زوجها بابتسامة متعبة:

“كنا ننتظر أذان الصبح بصوت المؤذن، هسه نصحى قبله بهورن السواق. ما أعرف شنو المستعجلين عليه!”

ويصف أحد المواطنين ما يحدث بأنه “فوضى صوتية”، قائلاً:

“الهورن فقد قيمته التحذيرية، صار مثل الزعيق الجماعي. المفروض يُستخدم للعذر، بس اليوم يُستخدم من دون عذر.”

إزعاج بلا فائدة

أما الموظفون الذين يقضون وقتهم على الطرق أثناء الذهاب إلى العمل، فلهم حكايات أخرى. يقول علي جاسم، موظف في دائرة حكومية:

“كل يوم أعاني من أصوات الهورن وأنا رايح للدوام. كأن المدينة كلها في حالة طوارئ! الكل يدق، حتى لو الإشارة خضراء بعد.”

بينما تشتكي زهراء محمد، معلمة، من أن طلابها أصبحوا يقلدون أصوات السيارات في الصف مازحةً:

“صار الهورن نغمة مألوفة، الأطفال حفظوها أكثر من الحروف!”

"إدمان صوتي".. من يفرح بالهورن؟

الغريب أن بعض السواق يجدون متعة في استخدام الهورن، كأنها جزء من شخصيتهم خلف المقود. أحدهم، كرار، شاب في العشرينات، يقول بابتسامة عريضة:

“أنا أحب أستخدم الهورن، أحسه يعطي هيبة للسيارة! خصوصًا إذا أحد قدامي يتلكأ، أدك له حتى يعرف أكو أحد وراه.”

أما صديقه الجالس إلى جانبه فيعلق ضاحكًا:

“هو ماشي بفرحة الهورن، حتى لو الشارع فاضي!”

الضرورة لا تعني الفوضى

لا أحد يُنكر أن الهورن أداة ضرورية في كثير من المواقف لتفادي حادث، أو لتنبيه المارة لكن المشكلة أن استخدامه أصبح عشوائيًا ومبالغًا فيه، حتى بات يُستخدم في غير محله. في تقاطع أو ازدحام خانق، تسمع عشرات الأبواق تتعالى في آنٍ واحد، كأنها معركة صوتية، بلا نتيجة سوى الإزعاج.

الشرطة والمرور بدورها تحاول التوعية، لكن يبدو أن الثقافة المرورية ما تزال “تحت الصفر” في بعض الأحيان. فالسائق الذي يظن أن الصوت يحل المشكلة، لا يدرك أنه يخلق مشكلة أكبر: توتر، إزعاج، وفقدان للهدوء العام.

الضوضاء مرض اجتماعي

خبراء علم النفس والاجتماع يرون أن هذه الظاهرة ليست مجرد عادة سيئة، بل انعكاس لحالة من التوتر العام يعيشها الناس يوميًا. فالهورن صار أداة لتفريغ الغضب المكبوت، وصوتًا يعبّر عن الاستعجال المزمن في حياتنا. البعض يبالغ باستخدامه، كما يبالغ آخرون في الكلام أو التصرفات، وكأن الصبر أصبح عملة نادرة في الشارع العراقي.

المدينة تستحق الصمت

كربلاء مدينة السلام والسكينة، لا تستحق أن تُغرقها أصوات “الهورنات” من كل زاوية. بين الزائرين والمرور والمواكب والازدحامات، يكفيها ما تحمل من حركة وضجيج طبيعي، فلا داعي لإضافة “صوت الغضب” إلى المشهد.

فهل يمكن أن نتعلم أن الهورن ليس وسيلة لتنفيس الغضب بل لتنبيه الضرورة؟

هل نصل إلى يوم تُصبح فيه شوارع كربلاء أكثر هدوءً، وأكثر احترامًا لأذن المواطن؟

ربما يبدو ذلك حلماً بعيدًا، لكن كل عادة تبدأ من وعي فرد.

وإذا كان بعض السواق يظنون أن الهورن هو “صوت القوة”، فالقوة الحقيقية اليوم هي أن تُمسك نفسك عن إزعاج الآخرين.

كربلاء، التي تعلمنا الصبر والسكينة، تستحق أن نمنحها لحظة صمت..

صمت يليق بمدينة القداسة، لا بضجيج الفوضى.

اضف تعليق