الثقافة بإمكانها أن تصبح عامل تحليل وتفسير واستشراف أيضا، وهذا العامل كما له تباشير وآمال، له من جهة أخرى محاذير خطيرة، نفهم ذلك من طريقة التعامل مع الثقافة، بين أن تصبح عامل ترشيد وتصحيح للنماذج والأنماط والنشاطات السلوكية، وبين أن تصبح عامل توظيف ومواجهة. أي أن تصبح الثقافة...

في عام 1996 صدر كتاب بعنوان (عودة الثقافة والهوية إلى العلاقة الدولية) من إعداد يوسف لابيد وفريدريك كراتوتشغيل، ويحاول هذا الكتاب من جهة طرح تساؤلات حول الغياب الطويل غير المفسر للاهتمام بالثقافة ومفاعيلها عن حقل العلاقات الدولية، ومن جهة أخرى التأكيد على فاعلية الثقافة والمنظور الثقافي التحليلي في تفسير أنماط متراكمة من التغيرات والتطورات في مجال العلاقات الدولية، خصوصاً بعد التزايد المتعاظم والمتسارع لهذه التغيرات على نطاق عالمي واسع، وعلى مختلف الأصعدة والمجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والإعلامية والتربوية، وهكذا في مجالات السكان والبيئة والصحة..الخ. وهي الأوضاع والتطورات التي وصفها الباحث الفرنسي بيار لولوش بفوضى الأمم، ووصفها كتاب (أكسفورد) سنة 1994م بالدول في عالم متقلب، ووصفها المفكر الأمريكي زبغنيو بريجنسكي بالانفلات، ووصفها صمويل هنتنغتون بصدام الحضارات.

 اتساع هذه التغيرات بهذه الدينامية، وبهذه الأنساق لا يمكن حصرها وتقييدها بالنماذج والأدوات التفسيرية والتحليلية ذات النمط التقليدي، أو بالمنظور الاقتصادي أو السياسي فحسب، وإغفال واستبعاد المنظور الثقافي. فهناك العديد من الظواهر والمواقف والأنماط السلوكية التي لا يمكن فهمها وتوصيفها وتفسيرها واستشرافها، إلا من خلال هذا المنظور وأدواته المنهجية وطرائقه التحليلية.

 هذا الاهتمام بالثقافة والمنظور الثقافي في النطاق الدولي يأتي في سياق الانشغال الأكاديمي والغربي بوجه خاص في إعادة التفكير من جديد بحقل العلاقات الدولية، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي خضعت لدراسات مكثفة وواسعة، من أجل توصيف خصوصيات هذه المرحلة، وتحليل عناصرها ومكوناتها، واستشراف مساراتها ومسلكياتها. وذلك لما لهذه المرحلة من اختلافات كلية وجذرية عن كل المراحل السابقة عليها، في ملامحها ومعالمها الشاملة. حيث أطلقت معها موجات متتالية من التغيرات والتحولات، فرضت تقويمات نقدية لطرائق التحليل، ونماذج التفسير، في مجال نظريات ومدارس العلاقات الدولية. 

وفي هذا السياق جاء كتاب الفرنسي جان روش أستاذ العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية بعنوان (هل نحتاج إلى نظرية في العلاقات الدولية) حيث أبرز المؤلف في هذا الكتاب عجز النظريات التفسيرية التقليدية على الإحاطة الشاملة بضخامة التغيرات العالمية، ونقص المفاهيم المبتكرة، وشحها في مجال العلاقات الدولية. 

وفي هذا السياق أيضاً جاء كتاب (التفكير الجديد في نظريات العلاقات الدولية) الصادر سنة 1997م، من إعداد الأمريكيين دول وجون ايكنبري. ويشرح هذا الكتاب التطورات الجديدة على مستوى الأفكار السياسية في حقل العلاقات الدولية.

 وفي عام 1998م نشر عميد كلية العلوم الاجتماعية بجامعة شيكاغو ستيفن والت دراسة بعنوان (العلاقات الدولية..عالم واحد ونظريات عدة) حيث يرى أن العقد الأخير من القرن العشرين، شهد اهتماماً غير مسبوق بمفهوم الثقافة، وهو تطور حسب نظره يتوافق مع تأكيد البنيويين على أهمية الأفكار والمعايير الثقافية، لهذا استخدم البعض المتغيرات الثقافية لتفسير أسباب تحاشي ألمانيا واليابان انتهاج سياسات عسكرية أكثر اعتماداً على الذات، وقدم البعض الآخر تفسيراً ثقافياً للعقيدتين العسكريتين الفرنسية والبريطانية في فترة ما بين الحربين، وهكذا جاءت مقولة صمويل هنتنغتون صدام الحضارات متفقة مع هذا التوجه.

 وهكذا ـ كما يضيف والت ـ فإن هذه الأعمال، وأعمال أخرى تعرف الثقافة بطرق متباينة، غير أنه لا يزال عليها أن تقدم تفسيراً وافياً لكيفية عملها، أو لمدى بقاء تأثيرها، خاصة وأن المنظورات الثقافية أصبحت رائجة جداً في السنوات الخمس الأخيرة من القرن الأخير. 

وتعتبر هذه النزعة انعكاساً لاهتمام أوسع بالقضايا الثقافية في العالم الأكاديمي، وفي الحوارات العامة أيضاً. وفي هذا الصدد نستحضر الدراسة التي اشترك في إعدادها بعض الباحثين الفرنسيين في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، حيث عالجت إمكانية أن تكون الثقافة كبديل عن السياسة في إنماء وتطوير وتحسين العلاقات الدولية، وفي معالجة الأزمات والتشنجات بين الدول. 

كما ركزت الدراسة أيضاً على أن الثقافة في الوقت الحاضر تفهم بشكل أكثر اتساعاً مما كانت عليه في ماض قريب، فهي تهدف إلى تناول الإنسان بكليته جسداً وروحاً وعقلاً ووجدانا.ً ويشكل هذا المفهوم عاملاً قوياً في العلاقات الدولية، يتمثل في إعلان الحق بالثقافة والحق بالمبادلات الثقافية.

وتخلص الدراسة إلى أن السياسة بمفردها لم تستطع أن تعالج مشكلات الأمم فلا بد من تعاضد الثقافة، وبالتالي ضرورة تطوير العلاقات والمبادلات الثقافية بين الدول والشعوب.

هذا الإدراك بقيمة الثقافة والمنظور الثقافي في حقل العلاقات الدولية من المرشح له أن يتنامى ويتأكد مع مرور الوقت. فالثقافة بإمكانها أن تصبح عامل تحليل وتفسير واستشراف أيضا، وهذا العامل كما له تباشير وآمال، له من جهة أخرى محاذير خطيرة، نفهم ذلك من طريقة التعامل مع الثقافة، بين أن تصبح عامل ترشيد وتصحيح للنماذج والأنماط والنشاطات السلوكية، وبين أن تصبح عامل توظيف ومواجهة. أي أن تصبح الثقافة خاضعة للمعايير الاقتصادية والسياسية وتحت هيمنتهما، لا أن تكون خاضعة للمعايير الأخلاقية والإنسانية.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق