q
ثمة مواصفات ذاتية وظروف مساعدة تجعل من شخص فرد ما داخل المجتمع يتوفر على وعي عميق بالمسؤولية، واستشعار دقيق بالفيروسات الاجتماعية المسببة لجملة من المشاكل، ومن ثم العمل على حلّها بنفسه، او باستنهاض الهمم وشحذ الإرادة في بقية الافراد للإسهام في تغيير الواقع...

{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}

سورة الصافات، الآية 24

كلما اقتربت المسافة بين المجتمع وشريحته المثقفة، كان الى النمو والتطور والتقدم أقرب، وكان هذا المجتمع في اختياراته ومواقفه ومعالجاته أصوب بفضل نور الفكر والمنهج الثقافي الأصيل والمتكامل بما لا يتركه للحيرة طرفة عين.

ثمة مواصفات ذاتية وظروف مساعدة تجعل من شخص فرد ما داخل المجتمع يتوفر على وعي عميق بالمسؤولية، واستشعار دقيق بالفيروسات الاجتماعية المسببة لجملة من المشاكل، ومن ثم العمل على حلّها بنفسه، او باستنهاض الهمم وشحذ الإرادة في بقية الافراد للإسهام في تغيير الواقع، وهو في ذلك؛ لا يتقاضى راتباً من الدولة، ولا يحظى بوظيفة او "تعيين"، او حتى زلفى "مسؤول" في الدولة، أو عند زعيم حزب، او حتى لدى وجيه اجتماعي، كأن يكون رجل مال وأعمال، او شيخ عشيرة، إنه ذلك "الرجل" الذي ذكره القرآن الكريم في سورة يس، الذي {جاء من أقصى المدينة يسعى....}، فقد أرشد الناس الى وجود نبي مرسل من السماء، وهو ذلك الحكيم الذي أرشد قوم يونس الى مخرج سريع من أزمة خانقة بعد أن تخلّى عنهم نبيهم، واتخاذ قرار حاسم بالاستغفار الى الله –تعالى- خلال ساعات لتنقشع عنهم غمامة العذاب وينجون بأجمعهم، ويتحولوا الى انموذج فريد بين الأمم عبر التاريخ في كيفية تغيير الواقع الفاسد.

مثقف زعلان!

"الصديق وقت الضيق"، مثلٌ شائع بين الناس يعبر عن مصداقية الانسان في الشدائد وليس في الاوقات العادية لوجود الحاجة اليه. فعندما يكون الناس مبتلون بنظام ديكتاتوري، او نظام ديمقراطي فاشل –كالذي نعيشه في العراق- فان الحاجة ماسّة لخارطة طريق تنقذهم من مستنقع الفساد والمحاصصة وانتهاك القانون والحقوق العامة.

الى جانب هذه الآلام والمحن، ثمة محنة أخرى يعيشها البعض ممن يعد نفسه من شريحة المثقفين لما يحمله من أفكار وتصورات انتجها من تراكمات المطالعة والمدارسة ومعايشة تجارب الآخرين، فهو يأمل بأن يجد لها مكاناً في السلوك والعادات والكيان الاجتماعي الذي يعيش فيه، وعندما يشعر بنوع من التنافر وعدم المقبولية لسبب او لآخر، فانه يشعر بالامتعاض، ثم الانكفاء على نفسه وعلى افكاره ايضاً، خارجاً بنتيجة؛ أن المشكلة ليست في الاحزاب السياسية الفاسدة، ولا في القانون، وإنما في المجتمع ايضاً، فهو الآخر بحاجة الى مكافحة! واحياناً يبلغ اليأس لدى البعض بأن يتحول خطابه من الإرشاد والتوعية، الى التشفّي بجهل المجتمع ومستوى ادراكه ووعيه، وأن ما يعيشه من أزمات على يد الحكام الفاسدين أمر طبيعي! كما لو أن عليهم أن يحملوهم على الاكتاف في تظاهرات مليونية باتجاه القصور الرئاسية ليطيحوا بالفاسدين وينصبوا هؤلاء الصالحين مكانهم!

دلّتنا التجارب على أن نجاح التغيير الحقيقي يأتي من رحم الواقع الاجتماعي فيولد البديل الصالح، ففي جامعات بريطانيا ربما كان العديد من الطلاب الهنود يدرسون للعودة الى بلادهم بشهادات مرموقة، كما هو حال سائر الطلبة من بلدان اخرى، بيد أن طالباً واحداً تميّز برؤية خاصة الى أوضاع ابناء شعبه، فهو لم يقدم حلولاً من القانون الذي درسه، ولا بما كتبه مونتسكيو في "روح القوانين"، وإنما دعا الى التآخي والسلم والعمل والاكفتاء الذاتي، فخلع بدلته الانيقة وفكّ رقبة العنق، واكتفى بقطعة القماش البيضاء يلفها حول جسده النحيف، و راح يحثّ الخطى في الأرجاء ليدقق في الزوايا المظلمة في حياة الشعب الهندي الذي كانت تفتك به الطبقية القاتلة، والأوبئة، وايضاً فجائع العبودية الى جانب مختلف مشاعر المهانة والذل في ظل استعمار بشع وقاسٍ، ويقال أنه بذل جهوداً مضنية لتعليم ابناء شعبه طريقة الاستفادة من المراحيض الصحية، ليكون فيما بعد غاندي (القديس)، وهو الإسم الذي أطلقه عليه ابناء شعبه، ليختفي اسمه الحقيقي: موهنداس كرمشاند.

وهكذا العديد من رموز التحرر والإصلاح في العالم، ليس فقط محو من اذهانهم فكرة الاميتازات والمكافآت والتصفيق وشهادات التكريم والتعظيم، وإنما وطنوا انفسهم على التضحية بالمال والنفس والسمعة في مواجهة مخاطر داخلية من ابناء شعبهم، وخارجية من القوى المتضررة من حركتهم النهضوية.

وليس مطلوباً أن نكرر شخصية غاندي ومقارعته الاستعمار البريطاني، ولا جيفارا ومقارعته للوجوج العسكري الاميركي في اميركا الجنوبية، او آخرين ارتبطت اسمائهم باحداث سياسية، إنما تأمل الشعوب بمن يقف الى جانبها، ويتفهّم تنوع مزاجاتها وقناعاتها ومستوى ادراكها للأمور، وربما تكون مسؤوليته "القيام بالنبوة في مجتمعه حين لا يكون نبي، ونقل الرسالة الى الجماهير، ومواصلة نداء الوعي والخلاص، وبيان الاتجاه والسبب، وقيادة الحركة في المجتمع المتوقف، وهذا عمل لا يقوم به العلماء، لأن هناك مسؤولية على عاتق العلماء محددة تماماً، وهي منح الحياة بأكبر قدر ممكن من الامكانيات، وكشف قوى الطبيعة والانسان واستغلالهما، إن العالم يمنحون الناس الرفاهية في الحياة، بينما مسؤولية المثقف والمفكر يحدد لهم كيفية السير والهدف في الحياة".

ربما يعتقد المثقفون والحريصون على واقع ومصير الامة، أن ثمة امكانية للاستفادة من تجارب الأمم الاخرى في تكوين نظام سياسي ناجح، او بناء اقتصاد يحقق الازدهار والرفاهية، وهذا من الحكمة والصواب في جانب منه، إنما واجب النظر في الجانب الآخر للتطبيقات العملية على الواقع الذي يشتمل على خطين متوازيين؛ واقع الفرد، و واقع المجتمع، فالانسان في جانبه المعنوي مكوّن من مشاعر ومدارك، الى جانب نزعاته ورغباته النفسية، فهو يطمئن بقلبه ونفسه قبل عقله بما يتلقاه من افكار، وهنا تحديداً المطب الذي يقع فيه البعض عندما يتصورون أن فهم نظريات الاقتصاد والاجتماع والسياسة والأمن لها الأولوية على مشاعر الحب والإيمان في نفس الانسان، وهذا تحديداً مكمن نجاح الآخرين عندما لامسوا هذا الوتر الحساس، فنجد اليوم عشرات الملايين من الشباب، الى جانب أمثالهم من الرجال والنساء، يشعرون بسعادة تغمر نفوسهم وهم يستمتعون بحرية الاختيار لأي لعبة، وأي تطبيق يرغبون به، ويحبون هذا الممثل او ذاك الرياضي، وحتى يحفظون ماركات السيارات الفارهة والمظاهر الخلابة، كما بامكانهم أن يكرهوا من يشاؤون، فهم أحرار في كل الاحوال، ومتعة حرية الاختيار في أنها تنقلهم –ولو للحظات- من واقعهم الفاسد والمرير الى عالم آخر، وإن كان افتراضياً و وهمياً، ولا يهم ما يحصل بعد ذلك.

"قبل أن تفكر في التأثير على الآخرين، اضمن احترامهم لك"، جملة ارى فيه الكثير من الحكمة قالها أحد علماء الدين في العراق.

الخطاب الايجابي أولاً

رغم معرفة الجميع بعدم جدوائية تكرار صدى الوجع من الواقع الاجتماعي، وأنه "تحصيل حاصل"، كما يحذر أحدنا شخصاً بصيراً (مكفوف) بألا يتعثر بحجرة في طريقه! أو تحذير شخص من هشاشة العظام، أو قرحة المعدة مع علمه أنه يشكو منها آلاماً مبرحة! رغم كل هذا، ما نزال نلاحظ الخطاب السلبي في الحديث عن المفاسد والاخفاقات على أنها حقائق لابد للشعب من الاطلاع عليها، واحياناً لا يرى البعض غضاضة في وسم الناس بالمغفلين والمخدوعين والضائعين، بعد ضياع بلدهم ونهب ثرواتهم، بما يجعل المواطن البسيط والفرد في المجتمع في حيرة من أمره ماذا يصنع؟! والى أين يذهب؟!

ما ينتظره الناس ممن يكتب أو يخطب او له مقدرة وفن في التأثير على الآخرين أن يكونوا بينهم بالدرجة الاولى، لا فوقهم، {رَسُولاً مِنْهُمْ}، ثم يتبعوا خطوات ربما تفيد في تغيير الواقع الفاسد:

1- الحديث الايجابي عن قدرات الانسان في التغيير والإصلاح، وبعث روح الأمل، والتعريف بدور الإيمان والفضيلة والأخلاق ليس في حل المشاكل وحسب، بل وفي المضي بخطوات متقدمة نحو الانتاج والابداع والاكتفاء الذاتي. وعن هذا كتب الكثير من علماء النفس مما أسموه بعلم النفس الايجابي.

ثم لنلاحظ ما اكتشفه الاطباء مؤخراً من اساليب فنية تدعم اجراءاتهم العلمية لمعالجة مرضاهم، فقد وجدوا في مهارات التعامل مع المريض ما يجسّر العلاقة معه، من خلال إثارة روح الأمل والثقة لديه، ومن ثم لتعزيز فرص المعالجة، أو تحقيق النجاح في عمليات جراحية صعبة.

2- الاشارة الى النقاط البيضاء في الحاضر وفي سجل التاريخ، وتحفيز الارادة لتكرار تلكم البطولات والمنجزات.

3- تقاسم المسؤولية لتصحيح الأخطاء ومعالجة المشكلة، والتخلّي عن مقولة "مشكلتك"، فمشكلة العتّال او بائع الخضار او الكاسب او العامل هي ذاتها مشكلة العالم، والخطيب، والموظف الحكومي، والاستاذ الجامعي، فالجميع يعانون شحّ الخدمات، وتضارب القوانين، وانعدام الأمن –في بعض الاحيان- فالجميع مشمولون في آثار الفشل السياسي والاقتصادي.

وحتى لا نكون أمام الخطر المحدق علينا الاعتبار بالمثقفين السياسيين ممن خاضوا المعركة السياسية ضد الديكتاتورية والظلم في سالف الزمان، فهم لم يخطئوا في المبدأ، وهو رفض الظلم والعمل على إزالته، والمطالبة بالحقوق والحريات، إنما أخطأوا في التطبيقات، فقد صبّوا كل اهتمامهم للوصول الى قمة السلطة دون النظر الى المحطات في الطريق، حيث الاوضاع الاجتماعية والنفسية للمجتمع الذي يفترض انهم يعملون ويضحون لإسعاده، فكانت النتيجة أن أطاح بهم الناس قبل أن ينجحوا هم في الإطاحة بالديكتاتور، والنموذج العراقي خير دليل وبرهان.

والمثقف العراقي اليوم أمام مسؤولية حضارية عظيمة، تفوق المرتبة الاخلاقية والانسانية كون هذا البلد تحول الى نقطة تقاطع افكار عالمية من الشرق والغرب، فلابد من كلمة وموقف يتميز به العراق أمام الآخرين، وأنه ليس جهاز استقبال وحسب، وإنما أرض خصبة لافكار حضارية داعية الى التنمية والإصلاح والتقدم، وقد دلّت مسيرة التضحيات على النجاح في محطات تاريخية، وما نعيشه اليوم من تحكيم قيم دينية وأخلاقية وآداب اجتماعية تمثل جزءاً من إرث مبارك لتلكم التضحيات.

اضف تعليق