ليست المشكلة في الهوية ذاتها، بل في انغلاقها وتصلبها، وعندما تتوهّم الهوية الاصطفاء، وتدّعي التفوّق، وتنكر حقّ الآخر في أن يكون مختلفًا. لا توجد هوية مكتفية بذاتها، إلا الهوية المتصلبة، التي تنغلق على نفسها حين تعتقد اكتفاءها الذاتي، ولا تتفاعل مع غيرها، وترفض التنوع والتعدد...

 يخطئ من يتوهّم أن الهويات ستزول من الحياة، أو تتلاشى في عالم مفتوح. الهويات اللغوية والثقافية والقومية والدينية تولد مع الإنسان، ويرثها من أسرته ومجتمعه وبيئته وثقافته ودينه. ليست المشكلة في الهوية ذاتها، بل في انغلاقها وتصلبها، وعندما تتوهّم الهوية الاصطفاء، وتدّعي التفوّق، وتنكر حقّ الآخر في أن يكون مختلفًا. لا توجد هوية مكتفية بذاتها، إلا الهوية المتصلبة، التي تنغلق على نفسها حين تعتقد اكتفاءها الذاتي، ولا تتفاعل مع غيرها، وترفض التنوع والتعدد. 

الهوية كائن في حالة صيرورة دائمة، لا تنمو وتتكامل إلّا بانفتاحها على ما هو حيّ في الهويات الأخرى، ولا تغتني إلّا بقدرتها على إعادة التشكّل، من خلال التفاعل الخلّاق مع العناصر الحيوية في الهويات اليوم، واستيعاب وتمثّل ما هو خلّاق فيها. 

الهوية الحية دينامية متجددة، تتّسع لاستيعاب الاختلاف، وتستطيع العيش المشترك بمعية الهويات المتنوعة في الوطن الواحد، المؤسَّس على الاحترام المتبادَل، والإيمان بحقّ كلِّ إنسان في أن يكون مختلفًا. 

إنسانية الإنسان تتجلّى في تحرّره من أسوار الهويات المغلقة؛ العنصرية والطائفية والأيديولوجية. لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عن هوياته الموروثة بالكامل، غير أن هذه الهويات لا تغدو إنسانية إلا إذا انفتحت على غيرها، وتخلّت عن أوهام الاستعلاء، وأقامت ذاتها على أساس الاحترام المتبادَل، والاعتراف بالمختلف، وتعزيز القدرة على الشراكة في العيش على الأرض.

مَن ينشأ ويترعرع في بيئة تشرعن الاسترقاق والتمييز، كما كان حال مجتمعات عديدة في الشرق والغرب، قلّما يوقظه ضميره الأخلاقي للاحتجاج على استعباد الإنسان. ذلك أن آثار الاسترقاق والعنصرية لا تزول بزوال نظام العبودية، بل تترسّب في البنية الثقافية للمجتمع، وتتغلغل في تقاليده وثقافته وآدابه وفنونه ولغته ورموزه وأعرافه، وتتسرب إلى منظوماته الدينية والقيمية والقانونية والمعرفية، فتواصل إنتاج التمييز على أشكال متنوّعة، منها ما هو معلن، ومنها ما هو مضمر. 

يُعلن التمييز بين إنسان وإنسان عن حضوره؛ تارةً على أساس النسب والجينات الموروثة، كما نرى في الإثنيات والأديان والمذاهب، وأخرى على أساس جغرافي وثنائية غرب/شرق، وثالثة على أساس ثقافي، ورابعة على أساس طبقي اقتصادي، وغير ذلك.

 في الهند مثلًا، يتجلى نظام الطبقات "الكاست" في الهندوسية، وهو نظام يقوم على أساس الولادة والنسب، ويُعدّ من أسوأ أنماط التمييز الديني، وإن كان دستور الهند الحديث يمنعه. يُصنَّف الهندوس في هذا النظام الطبقي إلى أربع طبقات: البراهمة، وهم الكهنة والعلماء، ويُعدّون من أرفع الطبقات. الكشاتريا، وهم طبقة المحاربين والحكّام. الفيشيا، وهم التجّار والحِرفيون. الشودرا، وهم الخدم والعمّال. ثم المنبوذون، أو "الطبقة الخامسة"، ويُعتبرون أدنى طبقة، وتُفرض عليهم قيود دينية واجتماعية صارمة. 

ولا يزال التمييز ضدهم قائمًا في بعض مناطق الهند، رغم حظره دستوريًا. وراثة المكانة الطبقية حاضرة في أديان أخرى بتعابير متنوعة. حتى في الإسلام، يتفشّى التوريث في بعض الطرق الصوفية وغيرها، من خلال الانتساب إلى مؤسّس الطريقة، الذي يمنح أبناءه مشروعية روحية على أساس الدم، وإن كان بعض هؤلاء الأبناء بلا علم، ولا حياة روحية، ولا ضمير أخلاقيا يقظا. 

لم يتوقف المولويون عند جلال الدين الرومي، الذي غدا معبودهم، بل انصاعوا لسلسلة من أحفاده وذريته، ممن لا يمتّ بعضهم إلى جلال الدين إلا بصلة الدم. تفشّى هذا المرض الروحي والأخلاقي في حياة المريدين، حتى صار شفاء أكثرهم منه عسيرًا.

لو اختفت مظاهر العنصرية الصريحة بحكم القانون وتطبيقه الصارم، كما يحدث في الأنظمة الديمقراطية الحديثة، فإن العنصرية المضمرة، الكامنة في اللغة، والتراث الثقافي، والمتخيل الاجتماعي، تظل فاعلة رمزيًا، بتعبيرات يصعب استئصالها، كما نراها في الغرب. 

لا خلاص من خفض ضراوة العنف الرمزي للتمييز واللا مساواة، ولا إمكانية لصيانة الكرامة الإنسانية والحرية، والشفاء من جروح العنصرية، ما لم نُخضِع البُنى العميقة للثقافة لمراجعة جريئة، ونكشف عن الجذور اللاشعورية للعنصرية، وننهض بتشريعات عادلة، وتطبيقها بصرامة، تجرّم كل أشكال التمييز على أساس العرق أو النسب أو اللون أو الدين أو المذهب أو الانتماء، ونُلزِم الجميعَ بتطبيقها الصارم. 

لا يمكن أن يختفي التعصّب كليًّا، حتى بتعبيراته الرمزية، من حياة الأفراد والمجتمعات، مهما بلغ الإنسان من التحضّر، وارتقى وعيه، وتقدّمت علومه ومعارفه. قد يتوارى التعصّب عن السطح، حين يسود القانون العادل، ويُطبّق على الجميع من دون تمييز، غير أنه يظل غاطسًا في طبقات اللاشعور، مترصّدًا اللحظة التي يُتاح له فيها أن يطفو إلى السطح، ويُعلن عن نفسه رمزيًّا أو سلوكيًّا، متى ما شعر الإنسان بتهديد صريح لهويّته، أو توهّم التهديد، أو ضعفت قبضة القانون، أو تفشّى اعتماد معايير مزدوجة في تطبيق القانون. العنصرية، وإن اختفت مظاهرها المعلَنة، تظل كامنة في البُنى العميقة للوعي، وتُمارَس أحيانًا بلا وعي، فهي متجذّرة في اللاشعور الجمعي، ومُستبطَنة في اللغة، والثقافة، والأدب، والفن، والتراث الديني، على نحو يصعب محو رموزه وتمثّلاته كليًّا. 

لا حماية للكرامة الإنسانية، ولا تحقّق للمساواة، ما لم يُكشَف النقاب عن العنصرية الظاهرة والمستترة، وتُفضَح رموزها وتعبيراتها أينما كانت، في اللغة، وفي القيم، وفي الثقافة، وفي الدين، ويُعمَل على مداواة جروحها العميقة في حياة الإنسان.

لا تنفرد ديانة أو فرقة أو مذهب وحدها بالشعور بالاستعلاء على غيرها. هذه الظاهرة تتفشّى في مختلف الأديان، سواء كانت سماوية أم أرضية. تراثيات الأديان ونصوصها لا تخلو من ادّعاء احتكار الحقيقة، وتكفير ما سواها أو إقصائه ووصمه بالضلال. مثل هذا الادّعاء يُفضي غالبًا إلى مشاعر بالتفوّق، تدفع أتباع كل دين أو مذهب إلى الاستعلاء على أتباع الأديان والمذاهب الأخرى. العقلانية النقدية يمكن أن تضع حدًّا لتطرّف هذا النزوع، لكنها لا تقوى على اجتثاثه بالكامل. 

إن مخرجًا ممكنًا من هذا الهوس الطائفي والنزاع الديني المفتوح، يمكن أن يتحقّق إذا اتسع وعي المجتمع. إذ كلّما اتسع وعي المجتمع، أمكن للتديّن أن يتحضّر. وتحضّر التديّن يتناسب طرديًّا مع اتساع حضور العقل وتراجع الجهل، ووفرة العيش الكريم وانحسار الفقر، وتقدّم الرعاية الصحية وعدم انتشار الأمراض، لكن هذا الحلم لا يزال بعيد المنال في العالم.

الولاء والبراء من منابع اللاشعور العميقة لدى من يعتنق معتقدًا انحصاريًا، إذ يكرّسان شعور الاصطفاء، ويعوقان القدرة على الحوار والتعايش مع المختلف في الدين أو المذهب. يرسم الولاء والبراء خارطة طريق لتحديد المواقف من الآخر، ويخضعان توجّهات الفرد وأحكامه لتعاليم وأوامر مسبقة، تفرض عليه، مثلًا، أن يخصّ المحبة بمن يشاركه المعتقد، وألّا يحبّ من يخالفه. 

التربية على عقيدة "الولاء والبراء"، وسواها من المقولات المشابهة في التراث، تُنتج تصنيفًا للبشر على مراتب، وتكرّس التمييز في المعاملة على أساس الهويات الاعتقادية. من يتطابق معتقده معك يُعامل كنفسك، أما المختلف فلا يستحق مثل هذه المعاملة. ليست هذه الثنائية حكرًا على الأديان والمذاهب، وإن اتخذت فيها طابعًا لاهوتيًا صريحًا في الأديان والمذاهب، بل تمتد إلى الأيديولوجيات الحديثة، فتستعيد الولاء والبراء بأسماء مغايرة، كـ "الرجعية" والتقدمية"، و"الثورية" و"التحريفية"، وغيرها من التصنيفات التي تُعيد إنتاج الانقسام بين "نحن" وهم"، على أساس ثنائية الحق والباطل، والهدى والضلال، والصواب والخطأ.

 في فضاء هذه البُنى المغلقة، يتحوّل الانتماء إلى المعتقد الأيديولوجي إلى معيار وحيد لتوزيع العاطفة، فيمنح الحُبّ وفقًا للمعتقد الأيديولوجي، ويُختَزل الإنسان في موقفه من الأيديولوجيا، لا في إنسانيته ومساهمته في بناء عالَم أرحب، عالَم يوفر للإنسان العيش الكريم، والسلام والأمن المجتمعي والعالمي، والسعادة للفرد والمجتمع. 

لا يتحرّر الإنسان من أسر هذه الثنائيات المؤدلجة، إلّا حين يستفيق ضميره الأخلاقي، ويغدو واعيًا بأن الحب لا يُملى، وأن الكراهية ليست فريضة أيديولوجية، وأن احترام الإنسان لا ينبغي أن يتوقّف على توافقه أو اختلافه في الدين أو المذهب أو الأيديولوجيا، بل على كونه إنسانًا يشترك معنا في الألم والمعاناة، والسلام والسعادة، والبحث عن المعنى.

بعض الهويات والمعتقدات والسلطات والجماعات في عالمنا لا يتعزّز وجودها بوفرة الأصدقاء، ولا يترسّخ حضورها من خلال بناء عالم مشترك مع المختلف، بل تقتات على اختلاق الأعداء، وتتقوّى بتجنيد جمهورها ضدّهم، وإن كانوا أعداءً متوهَّمين. ذلك أن عديدًا من الهويات لا تملك مقومات الاستمرار في ذاتها، فتفتقر إلى مبرّرات تمنحها شرعية داخلية، فتبحث عن مشروع خصومة دائم، يملأ فراغها، ويمنحها شعورًا زائفًا بالقوة، ويشد لحمتها الواهنة. 

في مثل هذا الواقع، لا تُستدعى الهوية لتأكيد الذات، بل تُستحضَر لتحديد العدو، إذ يتأسّس المعنى فيها على النفي لا الإثبات، وعلى الكراهية لا المحبّة، وعلى الصراع لا الحوار. متى غاب العدو الحقيقي، جرى اختراع عدو وهمي، ليؤدّي الدور ذاته، ويواصل تغذية الجمهور وتحريضه، وإثارة النزعات التعصبية في حياته، وترويض الضمير الجمعي على البقاء في حالة استنفار دائم.

اضف تعليق