عندما يسود شعور عام في المجتمع بأن الغدر والفتك يعد نوعاً من "الشطارة" ومن مراقي التفوق، وأن الوعود والعهود ليست سوى "كلام الليل يمحوه النهار"، فانه لن يتذوق طعم الراحة والاستقرار، وإن أقرّ افراد هذا المجتمع بهذا المبدأ الدخيل على الفطرة السليمة، وجعلوه أمراً واقعاً...

"الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك المؤمن".

رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم

 

استحضرها في لحظة تاريخية حاسمة كان من شأنها أن تغير موازين القوى في مواجهة عسكرية وسياسية محتدمة في مدينة الكوفة، بيد أن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، عليهم السلام، يولي الأهمية الأكبر للموازين الحضارية وللقيم السماوية، فأحجم عن مباغتة عبيد الله بن زياد من وراء الجدار، وقتله في دار هاني بن عروة عندما كان يعود صديقه شريك الأعور في مرضه، وقال قولته المشهورة عندما عاتبوه على ذلك: "منعني خلتان؛ الاولى: حديث علي، عليه السلام، عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك المؤمن، والثانية: امرأة هاني تعلقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي".

في علم السياسة يُعد تصرف مسلم في تلك اللحظة مغايراً للذكاء واغتنام الفرصة السانحة لتحقيق نصر مؤزر على عدوه، بدعوى انقاذ الامة من شخصية تكمن فيه كل الرذائل والسلبيات، ولعل من يقول –حتى اليوم- إن غضّ النظر عن الوسيلة في مثل هكذا مواقف يُعد من الواجبات بدعوى الحفاظ على الأرواح وحقن الدماء، والحؤول دون صعود حاكم طاغية الى قمة السلطة! وهي رؤية ربما تكون صحيحة على الصعيد الآني، بيد أنها تعجز عن الإحاطة بمصالح الانسان (الفرد والمجتمع) على الصعيد المستقبلي.

وهذا هو الشغل الشاغل في فكر أهل بيت رسول الله في سيرة حياتهم، فهم أرسوا دعائم الفضيلة وقيم الحق في حياة الأمة لسبب وعلّة واحدة، من جملة علل؛ توفير أقصى درجات الأمن والاستقرار على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وإبعاد الناس عن القلق وفقدان الثقة بسبب تراجع الأمان واحترام العهود والمواثيق، فعندما يسود شعور عام في المجتمع بأن الغدر والفتك يعد نوعاً من "الشطارة" ومن مراقي التفوق، وأن الوعود والعهود ليست سوى "كلام الليل يمحوه النهار"، فانه لن يتذوق طعم الراحة والاستقرار، وإن أقرّ افراد هذا المجتمع بهذا المبدأ الدخيل على الفطرة السليمة، وجعلوه أمراً واقعاً.

للفضيلة نشوء ونمو

قبل ان يكون مسلم بن عقيل سفيراً للإمام الحسين الى أهل الكوفة، كان تلميذاً في مدرسة أمير المؤمنين منذ نعومة أظفاره، فقد سمع و وعى كلام عمّه أمير المؤمنين في ذروة المواجهة المحتدمة مع أهل البغي والعدوان بقيادة معاوية الذي قال عنه: "والله ما معاوية بأدهى منّي ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر كنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة".

ولو راجعنا جذر مفردة "فَجَرَ" نجد أنها تدل على التشضّي والتمزق والانتهاك الصارخ للقيم الاخلاقية، فاذا كان صاحبها مديراً او وزيراً او رئيساً فانه سيصدّر هذا "الفجور" الى ارجاء المجتمع والامة لتكون ممارسة مقبولة لا يشمئز منها أحد، وتكون أمراً واقعاً، كما جرب هذا معاوية في أهل الشام، ومنها انطلق الى عديد الامصار الاسلامية آنذاك، وهو ما يجربه حكام اليوم والسياسيون بكل إصرار في بلادنا الاسلامية!

ومن بعد عمّه أمير المؤمنين، وبعد استشهاد الامام الحسن، شهد مسلم مصاديق عملية للتقوى والورع والفضيلة من بيت الوحي على يد ابن عمّه؛ الامام الحسين، عليه السلام، ففي ظل الاجواء الارهابية القاتلة، وسياسات التنكيل والتضليل التي كان يمارسها معاوية، جاءت وجوه الشيعة الى الامام الحسين يستنهضوه لوضع حد للانتهاكات المريعة للأخلاق والدين، وتراث رسول الله برمته، منهم؛ الصحابي الجليل؛ حجر بن عَدي الكندي، وقال للإمام الحسين: "لقد اشتريتم العزّ بالذل، وقبلتم القليل وتركتم الكثير، أطعنا اليوم وعصينا الدهر، دع الحسن وما رأى من الصلح، واجمع شيعتك من اهل الكوفة و ولّني وصاحبي عبيد بن عمرو، المقدمة فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف".

هذا الطرح الثوري صدر من أبرز رجالات الشيعة المقربين لأهل البيت، فهو الذي قال فيه رسول الله: "يقتل في منطقة مرج عذراء رجال يغضب الله لهم وأهل السماء"، لذا كان الامام الحسين في غاية اللطف معه، لمعرفته بإيمانه وإخلاصه وحرصه الشديد على مصير الدين، بيد أن المهم ايضاً؛ الالتزام بقيم الرسالة التي ضحى من اجلها رسول الله وأمير المؤمنين والاخيار الصالحين، فأجابه: "إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل الى نقض بيعتنا"، ولعل كل واحد منّا اليوم لو كان في تلك الفترة لاستحضر على الفور كلام رسول الله: "اذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه"، وبمعنى تشريع الاغتيالات والتفجير والاختطاف لنصرة الحق! بيد أن التأمّل في كلام النبي الأكرم يحمل دلالة "أنه لا يريد من المنبر تلك الاعواد المصنوعة من خشب، وكان يجلس عليها للارشاد والهداية، وأنما منبر الدعوة الإلهية، فيكون غرض النبي الإيعاز الى الملأ الديني الواعي لكلمته الثمينة بأن معاوية الداعي باسم الخلافة، كافرٌ بما أنزل من الوحي على الصادق الأمين بتعيين من أقامهم المولى سبحانه أمناء على شرعه القويم". (الشهيد مسلم بن عقيل- عبد الرزاق المقرّم).

مسلم.. السفير في الكوفة والمقاتل في كربلاء

مات معاوية فكانت البشرى السارة في نفوس المسلمين عامة، وأهل الكوفة والعراق بشكل خاص، لما تجرعوه من مرارة القمع والاضطهاد والإذلال طيلة فترة حكمه، وربما كانوا يتحينون الفرصة ليثيروا ملف "الهدنة" بين الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، وبين معاوية، فمن بنودها أن يكون الخليفة بعد الاخير؛ الامام الحسين، عليه السلام، ولو أن المعتاد على الغدر أعلنها جهاراً بأن "كل ما كتبته مع الحسن تحت قدمي"، بيد أن المعاهدة من الناحية السياسية والاجتماعية كانت امراً واقعاً آنذاك، لذا انهالت على الامام الحسين، رسائل البيعة والعهد بالنصرة إن هو قدم الكوفة ففيها "جندٌ مُجندة"، وقد اختلفت المصادر التاريخية في عدد الرسائل الواردة الى الامام الحسين، فمن يقول: اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب، واجتمع في اوقات متفرقة اثنا عشر ألف كتاب، هذا والامام الحسين لم يتعجل الردّ والتفاعل مع الموجة، بيد أنه خرج عن صمته لإلقاء الحجة بكتاب مطوّل أشار فيه الى كثرة الرسائل والدعوات والمبعوثين وكان آخرهم –أشار الامام-؛ هاني بن عروة، وسعيد الحنفي، وهم من وجوه الشيعة في الكوفة، ومما جاء في كتابه: "وأنا باعثٌ اليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فان كتب إليّ أن قد أجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم فأني أقدم عليكم وشيكا إن شاءالله، فلعمري ما الامام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله –تعالى- والسلام".

حتى في هذه الرسالة الاخيرة بين الامام وأهل الكوفة، بيّن لهم معالم الحكم الرشيد في الاسلام، وكيف تكون الموازين الاخلاقية والدينية هي الحاكمة قبل الانسان الحاكم، وهو ما جسّده مسلم بأروع ما يكون خلال وجوده في الكوفة، فقد تعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي كما هو، وفي مستواه من الوعي والثقافة والإيمان، ولم يتبع أي وسيلة خارج الاخلاق والدين لكسب الناس وإجبارهم على الطاعة لتحقيق النجاح في قيادة الساحة وعدم السماح لابن زياد بقلب الامور عليه، ولثبت المبدأ القرآني العظيم {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، وان يتحمل كل انسان مسؤولية عمله وقراره أمام الله و أمام الدين في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لذا لم يتزعزع مسلم، ولم يجزع مطلقاً عندما وجد نفسه وحيداً في طرقات الكوفة بعد أن تخلّت عنه الألوف من ضعاف النفوس والإيمان، لأنه صاحب رسالة إلهية عظيمة، وبقي شجاعاً متنمّراً في ذات الله أمام غطرسة وطغيان ابن زياد حتى اللحظات الاخيرة قبل استشهاده.

هذا ما كان في الكوفة، أمام في ساحة المعركة في كربلاء، فقد كان لمسلم حضوره الحاسم والمدوي على لسان الامام الحسين، عليه السلام، خلال محاججته أهل الكوفة المتجحفلين لقتاله، ومما قاله لهم: "ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته"، يعني؛ لو كان مسلم قد قتل ابن زياد في دار هاني بن عروة في ذلك اليوم العصيب، لما كان الامام الحسين يقف يحاجج أعدائه قبل استشهاده بتلك الحجج البالغة والقوية، وربما لكان الأمويين قد جهزوا الجيوش على مسلم في الكوفة، وعلى الامام الحسين، عليه السلام، رافعين راية الثأر كما فعل شيخهم برفع "قميص عثمان".

من هنا نفهم قيمة الفضيلة، وخطورة الرذيلة، ليس كممارسة فردية في البيت والشارع، وإنما كمنهج سياسي وسلوك اجتماعي عام يهدد السلم والاستقرار، وحتى الكرامة الانسانية التي فقدتها الأمة باستمرائها الغدر والحيلة والمكر في كثير من جوانب الحياة.

فسلام الله على مسلم بن عقيل، وسلام الله على البيت النبوي الذي نشأ وترعرع فيه، وصار ذلك الانسان النموذجي في السياسة الصالحة والتضحية من اجل الحق والفضيلة.  


اضف تعليق