التاريخ الذي يذكر قادة فاتحين، وملوك فرضوا سيادتهم لفترة من الزمن، يقف إجلالاً واحتراماً لطفلين صغيرين ذبحا عند شط الفرات، وتم دفنهما دون رأسيهما، ليس لأنهما كانا في صفوف جيش منتصر، بل كانا في جبهة الحق والفضيلة التي لا تقرّ بالظلم والفتك وكل مفردات الرذيلة والباطل...
عندما أردت الكتابة عن ذكرى استشهاد ولدي مسلم بن عقيل، قفزت في ذهني فجأة مقولات لمنظري الحركة الصهيونية يقولون فيها: "العالم لا يشفق على المذبوحين، لكنه يحترم المحاربين"! و"الاحذية الثقيلة هي التي تصنع التاريخ"! ومع الفارق الكبير بين هذه المناسبة وهذه الاقوال، ربما يعترض عليّ القارئ الكريم لطبيعة العلاقة بين الاثنين، لكن أجدني ملزماً هذه الأيام تحديداً بالاسهام –ما أمكن- في بلورة مفاهيم محورية في قضيتنا الحضارية مع الآخرين، علّها تكون نافذة لفهم ما يجري من الاحداث السياسية في المنطقة تيمّناً بهذه المناسبة الأليمة، ولنعرف ما اذا كان حقاً؛ السيف والرصاص و"الحذاء العسكري الثقيل" هو من يحدد المهزوم من المنتصر، أم ثمة عوامل اخرى ربما لم تتضح للعالم الذي أراه اليوم معتقلاً بأكمله في معسكر العنف والقسوة والظلم.
العلاقة العضوية بعاشوراء
القصة معروفة للجميع، تتناقلها الاجيال ويتداولها الابناء عن الاجداد، نظراً لما فيها من إثارة للمشاعر والعواطف، فأي انسان سويّ في هذا العالم لا يهتزّ من جريمة ذبح طفلين صغيرين بدم بارد، لا لذنب ارتكبوه سوى انتمائهما الى أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، الرافض للظلم والطغيان، و الداعي لتطبيق قيم السماء.
من قتل الطفلين الصغيرين؛ ابراهيم ومحمد؛ ولدي مسلم بن عقيل، كان مؤمناً بمخلفات الجاهلية، ومن اتباع منهج العنف والقسوة التي جاهد رسول الله ومن بعده أمير المؤمنين لمحاربتها، وتبيين خطلها كخيار للانتصار والغلبة، ومن ثم أدرك انسان اليوم هذه الحقيقة بفطرته السليمة أن "العنف يولد العنف"، بيد أن النظرة الضيقة الى المال والسلطة والجاه يقفز على القيم الانسانية والاخلاقية، فيبدو الربح السريع تفوقاً، والانتصار بالقتل او التهميش وإلغاء الآخرين ذكاءً سياسياً وعسكرياً، ولعل هذا ما أعطى المصداقية لمقولات مثل: "التاريخ يكتبه المنتصرون"، بمعنى؛ لا مكان للمقتول والفاقد للإمكانيات العسكرية والمالية والسياسية في هذا العالم، ولهذا الكلام جانب صغير من الصحّة، فالمنتصرون موجودون في التاريخ قطعاً، ولكن العبرة بالنتائج، وضحاياهم ايضاً موجودون، وللقرآن الكريم كلمة أخرى حاسمة ذات البعد الحضاري: {العَاقِبَة للمُتقين}.
نفس هذا الرجل الذي قتل ولدي مسلم بن عقيل طمعاً بالجائزة، لما دخل على عبيد الله بن زياد في الكوفة طرح بين يديه رأس الولدين ظنه منه أن يأخذ بالمقابل الجائزة، فالتفت اليه ابن زياد: "ومن قال لك أن تضرب عنقهما؟! اذهب لا جائزة لك".
ابن زياد، الأمير المنصوب من قبل يزيد بن معاوية، كان على علم بعدد الرجال والفتيان في معسكر الامام الحسين، عليه السلام، ومنهم؛ هذان الولدان لمسلم بن عقيل، وكانت معهما أخت لهما يُقال لها: "حميدة"، هي الوحيدة التي بقيت من آل عقيل في المدينة بعد واقعة عاشوراء.
تتبع الطاغية أثرهما بعد عملية الاجتياح الغاشم لخيام نساء الامام الحسين بعد استشهاده، و بين لهيب النيران، ودخان الخيام، وعمليات السلب والنهب والترويع التي مارسها الجيش الأموي ضد عترة رسول الله، صلى الله عليه وآله، تمكن ابراهيم ومحمد من الهروب بعيداً عن ساحة المعركة باتجاه بساتين النخيل، ولجأوا عند امرأة صالحة، ليتكرر مشهد لجوء والدهم مسلم من قبل تلك المرأة الصالحة في الكوفة (طوعة).
هذا الحدث كان يعد قدحاً في الانتصار العسكري لابن زياد وللمؤسسة العسكرية الأموية، فقد كاد أن يقتل الامام زين العابدين في مجلسه، عندما عرف بوجود شاب بعد مقتل كل أولئك الرجال، ولكن عمته العقيلة زينب حالت دون ذلك، لذا جدّ في طلب الولدين معلناً جائزة نقدية لمن يعثر عليهما، فما كان خطر الولدين على الدولة الأموية، وهما في وضع يحتاجان فيه الى الملجأ والأمان؟
الأسر، والسبي، والاستعباد، والاستضعاف، من مفردات الثقافة الجاهلية، فالقبيلة المتفوقة هي التي لديها الأسرى من الرجال والنساء، تحولهم عبيد تفعل بهم ما تشاء، وتستحوذ على أموالهم وممتلكاتهم، إنها ثقافة الغزو الجاهلية من اجل اهداف شخصية دنيئة، وهو المشهد الذي حرص الأمويون لترتيبه في الكوفة والشام للإيقاع بأهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، دونما رادع من دين او ضمير، بل حتى قرار طواف موكب السبايا في طرقات الكوفة، ثم اختيار الطريق الأطول نحو الشام ليطلع أكبر عدد من سكان المناطق الاسلامية بما أنجزه الحاكم المنتصر، كان ضمن السيناريو الجاهلي المقيت للشماتة بانتصار الحق في المعارك التي قادها رسول الله، وأمير المؤمنين ضد الجاهلية والبغاة والمنافقين.
ولكن؛ التاريخ الذي يذكر قادة فاتحين، وملوك فرضوا سيادتهم لفترة من الزمن، يقف إجلالاً واحتراماً لطفلين صغيرين ذبحا عند شط الفرات، وتم دفنهما دون رأسيهما، ليس لأنهما كانا في صفوف جيش منتصر، بل كانا في جبهة الحق والفضيلة التي لا تقرّ بالظلم والفتك وكل مفردات الرذيلة والباطل، وهي على استعداد للتضحية بكل شيء حتى "لا يزول الحق من مقره ويغلب الباطل على أهله"، كما نقرأ في دعاء الندبة، ثم يكونوا الحجة البالغة على الناس أجميعن ليعرفوا كيفية اختيار جبهتهم وموقفهم، وحتى: "لا يقول أحدٌ لولا أرسلت الينا رسولاً منذراً وأقمت لنا علماً هادياً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى".
اضف تعليق