المشكلة الأوسع هي التأثير التراكمي للإعلام. هذا التأثير يفرض أن طرق التفكير تميل إلى التكيف مع صور الإعلام، وأن وسيلة الإعلام أهم من محتواها. كلما شاهدنا عدداً أكبر من الأفلام، بدأنا نرى العالم كفيلم. خاصة فيما يتعلق بمسائل العنف والسلوكيات المنحرفة وتعلم الأفعال السيئة من خلال ظاهرة المحاكاة السلوكية...
إن الأفلام السينمائية جميعها تَنبِض بالحياة من الناحية النفسية، وتتفجَّر بالدراما الإنسانية؛ دراما يمكن رؤيتها من زوايا عديدة مختلفة؛ في الأفلام ذاتها، وفيمَن يصنعونها، وفيمَن يشاهدونها. يستكشف هذا الكتاب -"السينما وعلم النفس" لمؤلفه (سكيب داين يونج)- هذه القضايا، ويعرض كيف فسَّر علماء النفس الأفلام السينمائية، وكيف قدَّمت السينما العلاج النفسي والأمراض النفسية. كما يفحص المؤلف أيضًا التركيبة النفسية لكبار المخرجين؛ مثل ألفريد هيتشكوك، ومارتن سكورسيزي، ووُدي آلِن، والممثِّلين البارزين؛ مثل أنجلينا جولي وجاك نيكلسون، إلى جانب تناول ما للأفلام السينمائية من تأثير عميق على الجمهور. واستنادًا إلى خبرته الواسعة في مجالَي السينما وعلم النفس، يكشف المؤلف عن الصلات العميقة بين عالم السينما الخيالي وواقع الحياة اليومية.
وتستعرض هذه القراءة النهج الأكاديمي الذي يربط بين الفن السابع وعلوم السلوك والتفكير. حيث تتناول الفصول المختلفة كيفية تصوير الأمراض النفسية والأطباء النفسيين في الأفلام وتأثير ذلك على الرأي العام. كما تركز على سيكولوجية الجمهور، بما في ذلك أنماط المشاهدة وتأثير الفيلم على المشاعر والسلوك، مع مناقشة ظواهر مثل العنف والإغواء اللاواعي. بالإضافة إلى ذلك، يبحث الكتاب في التكوين النفسي لصناع الأفلام (مثل وودي آلن) ووظيفة الأفلام كوسيلة للعيش وأداة علاجية لتعليم القيم والتأمل الذاتي. ويقدم النص أيضًا تحليلات مختلفة لعملية تفسير الرموز السينمائية وتقييم الأفلام بناءً على خلفيات ثقافية وتاريخية متباينة.
1. السياق الفكري الأهداف المنهجية
يُقدم هذا الكتاب نظرة شاملة ومتعمقة على العلاقة المتشابكة بين السينما وعلم النفس. ترتكز الفرضية الأساسية للكتاب على أن جميع الأفلام مُفعمة بالعناصر السيكولوجية ومزدحمة بالدراما الإنسانية التي يمكن تناولها من زوايا متعددة.
من الدلالات الهامة في هذا الشأن أن كلاً من التحليل النفسي الإكلينيكي وعلم النفس المعملي ظهرا في ذات اللحظة التاريخية تقريباً التي ظهرت فيها السينما، أي في نهاية القرن التاسع عشر. ومن الواضح أن التأثير الثقافي لكل من السينما وعلم النفس كان هائلاً على القرن التالي وما بعده.
يفترض الكتاب بقوة أن جميع المناهج التي استخدمها الباحثون الأذكياء على مدار سنوات عديدة لها أساس منطقي. ولكنه يشير إلى أن المناهج كلها تتيح لنا رؤية بعض الأشياء لكنها تحول دون رؤية أشياء أخرى.
يتبنى الكتاب مقاربة "إنسانية" (نسبة إلى العلوم الإنسانية) في تناوله لعلم النفس. ويشمل ذلك التحليل النفسي الفرويدي، وعلم النفس الثقافي، وعلم النفس التجريبي، وعلم الأعصاب، وعلم النفس الشعبي، والفلسفة، والنقد السينمائي/الأدبي. هذه المناهج موجودة جنباً إلى جنب وممتزجة ببعضها البعض.
لتوضيح طبيعة العلاقة بين الأفلام السينمائية والأفعال البشرية، يضع الكاتب في الاعتبار كافة المقاربات المنهجية الراسخة، بما في ذلك:
* علم النفس كاختصاص علمي: المتمثل في التجارب المعملية التي يتم التحكم في عواملها وتنويعها.
* علم النفس كاختصاص إكلينيكي: دراسة حالة يتم استخدامها في علاج نفسي يعتمد على الاستبصار.
* العلوم والإنسانيات: المتمثلة في تأويل فيلم انطلاقاً من نظرية علائقية نسوية.
إن هذه المقاربة للمنهج، التي تظهر في البداية على أنها مختلفة وقد تؤدي إلى نتائج متناقضة، تكشف في النهاية عن مزاياها وحدودها.
2. الإطار الرمزي لعلم نفس الفيلم
لجمع وتحليل العلاقة بين السينما وعلم النفس، يقدم الكتاب إطاراً رمزياً للفيلم يوضح النشاط الرمزي المرتبط بمشاهدة الفيلم. يتألف الفيلم من صور وأصوات (خصائص فيزيائية) وهي رموز ذات معنى يخلقها المُبدع (صُنّاع الفيلم)، ثم يتم تلقيها من قبل المتلقي (المشاهدون)، وينتج عنها المعنى (تفسير الفيلم).
تُخلق الرموز بواسطة صُنّاعها. صُنّاع الأفلام (المخرجون والكتّاب والممثلون) يجلبون حتماً إلى الرموز التي يبدعونها جوانب من ذواتهم، مثل مشاعرهم الباطنية العميقة، وأنماط سلوكهم الروتينية، وقيمهم الواعية، وانحيازاتهم.
تتمثل العمليات التي تقع قبل وأثناء وبعد المشاهدة في صميم اهتمامات علم النفس. فالأفلام، مثل أعمال "آفاتار" و"سيد الخواتم"، يحظى جمهورها بمليارات المشاهدين حول العالم. كل حدث في الفيلم يمكن النظر إليه على أنه "حدث رمزي".
3. النفس في الفيلم: السلوك والتفسير
يركز الكتاب على تمثيلات الفعل البشري الموجودة "داخل" الأفلام. ويتناول الفصل الثاني السلوكيات البشرية الممثلة في الأفلام والمقاربات التفسيرية (مثل التحليل النفسي الفرويدي) التي تسعى لبلوغ معانٍ أعمق. بينما يعمد الفصل الثالث إلى تضييق نطاق البحث ليقدم رؤية مكثفة للأنشطة المرتبطة في المخيلة العامة بعلم النفس، مثل الاضطرابات النفسية (الفصام، إدمان الخمور) والتدخلات السيكولوجية (العلاج النفسي).
أ. السلوك البشري في الأفلام
هناك عدد لا نهائي من مجالات السلوك البشري التي يمكن تجسيدها في الأفلام، وقد توغل علماء الاجتماع في دراسة عدد كبير من المواضيع السلوكية في الأفلام، مثل: الجنس، العنف، السياسة، القمار، الأمومة، النوع، الجريمة، جنوح النشء، الأحلام، المرض النفسي، وغيرها.
يُعَد تحليل المضمون مقاربة منهجية لدراسة السلوك البشري في وسائل الإعلام، سواء كانت مرئية (إعلانات المجلات والأفلام)، أو مكتوبة (الرواية والشعر). وقد وثقت دراسات تحليل المضمون ارتفاع معدلات العنف في برامج الأطفال عن برامج الكبار. ولوحظ أن شخصيات ديزني "الطيبة" و"الشريرة" تتورط على حدٍ سواء في ممارسة العنف العلائقي (الذي يتضمن ممارسة الضغوط أو التآمر أو نشر الشائعات).
كما حظي الجنس باهتمام كبير في وسائل الإعلام والأفلام. فاستناداً إلى عينة من الأفلام المصنفة "محظور" من حقبة الثمانينيات، وجد الباحثون أن العلاقات الجنسية بين غير المتزوجين تم تصويرها عادة أكثر من تلك التي بين المتزوجين بمعدل 32 ممارسة جنسية بين غير المتزوجين مقابل ممارسة واحدة بين المتزوجين. وفي تحليلات واسعة النطاق لـ 443 فيديو من الثمانينيات ذات محتوى جنسي صريح، تبين أن ثلث المشاهد فقط أظهرت أن طرفي العلاقة لديهما نفس القدر من الرغبة.
أما بالنسبة للتدخين، فقد ظل موضوعاً متواتراً بكثرة في تحليل المضمون. وقد أظهرت دراسات عديدة لتحليل المضمون أن معدل ممارسة التدخين في الأفلام في عام 2002 هو نفسه الذي كان عليه في عام 1995، بالرغم من الانخفاض الهائل في نسبة المدخنين بين سكان الولايات المتحدة.
ب. التفسيرات السيكولوجية (الفرويدية واليونغية)
1. التحليل النفسي الفرويدي: تنطلق النظرية الفرويدية المعقدة من أساسيات أهمها:
* الكائنات البشرية مدفوعة برغبات أنانية (مثل الجوع والجنس والعنف).
* تنشأ بنى نفسية ثلاثة (الهو، والأنا، والأنا العليا) في صراع لا نهاية له.
* جزء كبير من الصراع النفسي لاواعٍ.
* يمكننا اقتناص لمحات وظلال من اللاوعي عبر "الرموز". الأفلام رموز تحمل معانٍ مستترة، مثل تفسير الأحلام.
يقر فرويد بأن القصص الخيالية تكشف عن صراعات لاواعية ذات طابع عام. على سبيل المثال، يمكن النظر إلى مغامرة "دوروثي" في *ساحر أوز* كمجاز لرحلة المراهقة والتطور.
2. نظرية الأنماط الأولية (كارل يونج): ترتكز هذه النظرية على مفهومي الرمز واللاوعي، لكنها تختلف عن فرويد في فهمها للاوعي. يرى يونج أن اللاوعي ليس مجرد مجموعة من العقد الشخصية، بل هو "اللاوعي الجمعي"، وهو نطاق نفسي يتقاسمه جميع البشر، ويعج بتيمات أو صور فكرية عامة تُسمى الأنماط الأولية. تتكشف هذه الأنماط في صورة شخصيات مألوفة مثل الأم والأب الحكيم والبطل.
فيلم "حرب النجوم" يُعد مثالاً حظي باهتمام كبير من المفسرين اليونغيين. فالبطل هو لوك سكاي ووكر، والأب الحكيم هو أوبي وان كينوبي، والظل هو دارث فيدر. يُفسر مشهد مواجهة لوك لدارث فيدر في الكهف على أنه إدراك لوك أنه يتقاسم جزءاً من هويته مع فيدر، الذي يمثل "الظل" أو جانبه المظلم.
ج. الاضطرابات النفسية والعلاج في السينما
تحملنا الاضطرابات النفسية إلى الحافة المُخيفة لآلية عمل النفس البشرية. ويُعد الجوكر في فيلم *الفارس المظلم* مثالاً ممتازاً للتجسيد الحي لمملكة "الجنون".
تم تصنيف التمثيلات السلبية للأمراض النفسية في السينما ضمن أنماط شخصية:
* القاتل المهووس: مثل نورمان بيتس في *سايكو* ومايكل مايرز في *هالوين*. هذه الشخصية تبلغ ذروة الإفراط في التبسيط.
* الروح الحرة المُستنيرة: مثل ماكميرفي في *أحدهم طار فوق عش المجانين*. هذا النمط يقدم صورة للمريض النفسي كشخص خارق، أكثر حرية وإبداعاً وحيوية من "العاديين".
* الغاوية: مثل شخصية ليزا سبريج في فيلم *ليليث*.
* الطفيلي النرجسي: حيث يتم تقديم المشاكل النفسية كعيوب بسيطة في الشخصية، مثل شخصيات أفلام وودي آلن (مثل *آني هول* و*مانهاتن*) التي ترتاد جلسات العلاج بانتظام.
في المقابل، قدمت بعض الأفلام تشخيصات دقيقة نسبياً للأمراض النفسية، مثل تصوير *مرثية حلم* للاضطراب النفسي الناتج عن استخدام الأمفيتامين.
تصوير الطبيب النفسي: يتغير تصوير الأطباء النفسيين في السينما عبر التاريخ. تم وصف ثلاثة صور نمطية للطبيب النفسي السينمائي:
1. الدكتور السخيف (The Ridiculous Doctor): يتميز بحماقته الهزلية.
2. الدكتور الشرير (The Evil Doctor): يستخدم معرفته بالذهن البشري للإساءة للمرضى، مثل هانيبال ليكتر في *صمت الحملان* أو الممرضة راتشيد في *أحدهم طار فوق عش المجانين*.
3. الدكتور الرائع (The Wonderful Doctor): يتميز بالكفاءة والعطف والفاعلية في ممارساته العلاجية، مثل الدكتور برجر في *أناس عاديون*.
وقد أظهرت دراسة منهجية لدوافع الأطباء النفسيين في الأفلام أن دافع الاهتمام بالآخرين هو الأكثر شيوعاً (66%)، يليه دافع السلطة (62%).
4. علم نفس صُنّاع الفيلم والنجوم
يتناول هذا الفصل الكيفية التي تنعكس بها خبرات الفنانين وقيمهم وشخصياتهم ودوافعهم اللاواعية على أعمالهم.
التحليل النفسي السيري هو دراسة شخصية لشخص واحد تُغطي حياته بأكملها، وتهدف إلى تسليط الضوء على الأبعاد الشخصية المُضمرة تحت السلوكيات الظاهرة. وقد كان التحليل الذي قام به فرويد لحياة ليوناردو دا فينيشي أول تحليل نفسي سيري في التاريخ. تفترض السيرة النفسية أن جميع العناصر الرمزية في الأفلام هي انعكاسات للتكوين النفسي للأشخاص الذين قاموا بصنعها.
ألفريد هيتشكوك هو مثال رئيسي للسيرة النفسية. وقد نُقلت قصة هيتشكوك المُفضلة عن وضع والده له لفترة وجيزة في الحبس ليلقنه درساً، وهي قصة لجأ إليها هيتشكوك لتفسير خوفه من السجن والشرطة الذي رافقه طيلة حياته. ويُرجح سبوتو أن مشاعر هيتشكوك المتناقضة تجاه أمه، التي أصبحت تحتاج إلى اهتمام ورعاية بعد وفاة والده، انعكست في تجسيداته البغيضة لشخصية الأم في أفلام مثل *سيئ السمعة* و*سايكو*.
في المقابل، نجد المخرج وودي آلن الذي يُعد أكثر ارتباطاً في المخيلة العامة بعلم النفس. العلاج النفسي يلعب دوراً بارزاً في العديد من أفلامه (*آني هول*، *مانهاتن*، *أزواج وزوجات*). يُقدم آلن العلاج النفسي كجزء من نمط الحياة الفكرية لنيويورك. بدأ آلن التحليل النفسي عام 1959 في الرابعة والعشرين من عمره، وخضع لتحليل نفسي مطول على فترات متقطعة مع خمسة محللين مختلفين.
5. علم نفس مشاهدي الأفلام
ينقل هذا الجزء بؤرة الاهتمام إلى جمهور الأفلام. الأسئلة المتعلقة بمن يشاهد الأفلام، وأين ومتى يشاهدها، وما هي نوعية الأفلام التي تذهب لمشاهدتها، هي صور مختلفة للظاهرة التي يُطلق عليها علماء النفس "التعرّض الانتقائي".
تاريخ جمهور الأفلام وسياقات المشاهدة: مثلت الأفلام حضوراً ثقافياً طاغياً لأكثر من قرن. لعب التلفزيون دوراً كبيراً في تغيير عادات المشاهدة، حيث أصبح التلفزيون وسيلة هامة لمشاهدة الأفلام. كما أتاح شريط الفيديو وأقراص الدي في دي والبلو راي للمشاهدين قدراً أكبر من التحكم. الفيلم يحمل مزية مادية وتاريخية عند مشاهدته في دور العرض، حتى لو كانت هذه المزية هي الشعور بأن الصور "علينا".
الأنواع التي يشاهدها الناس: أفلام الخارقين والأبطال تستحوذ على الاهتمام حالياً. قائمة الأفلام الأعلى إيرادات في تاريخ السينما (المعدلة وفقاً لمعدل التضخم) تشكل ثروة من المرجعيات الثقافية المشتركة (مثل *الفك المفترس*، *الوصايا العشر*). العوامل التنبؤية بالنجاح التجاري تظل غير واضحة تماماً.
6. اللحظة السينمائية: الإدراك والاستيعاب والمشاعر
تعمل عقولنا بنشاط كبير ونحن نشاهد الأفلام. علينا أن ندرك الصور والأصوات حسياً لنحيط بمعنى القصة.
علم النفس المعرفي والإدراك الحسي: يشمل علم النفس المعرفي الإحساس والإدراك والانتباه والذاكرة وحل المشكلات. وقد لعب علم النفس المعرفي دوراً هاماً في نقد دراسات الفيلم.
* الإدراك الحسي للأفلام: الصور في الفيلم لا تتحرك فعلياً، بل هي سلسلة من 24 صورة ثابتة في الثانية يتم عرضها. هذه "الحركة الظاهرية" تُنشط المسارات المعرفية والفسيولوجية ذاتها التي تُنشطها الحركة الحقيقية.
* استيعاب السرد (القصة والحبكة): القصة هي العلاقات السببية والزمانية والمكانية في الأحداث. بينما تشير الحبكة إلى المعلومات التي تُقدم للجمهور وطريقة تقديمها (كيف تُحكى القصة). القصة هي "متخيلة" وتنشأ داخل ذهن المشاهد كنتيجة للطريقة التي تُعالج بها الحبكة. يستخدم الناس "المخططات" المعرفية (مثل مخططات الشخصيات والأماكن) لفهم العالم والأفلام.
الاستيعاب الشعوري: المألوف هو أننا نفكر في الأفكار والمشاعر كشيئين منفصلين (الرأس البارد مقابل القلب المتّقد). لكن النظريات الحديثة تؤكد أن العمليات المعرفية تحدث بالتزامن مع العمليات الشعورية. التجارب أظهرت أن المونتاج يمكن أن يؤثر على المشاعر، كما في تأثير كوليشوف.
تُستخدم التيمات المثيرة للمشاعر، مثل الميلودراما (التي تستثير الشفقة)، والرعب (الذي يستثير الخوف والاشمئزاز)، والكوميديا (التي تجلب المتعة)، في ربط المشاهدين بالقصة.
التماهي والتعاطف: التماهي هو اندماج معرفي وشعوري مع الشخصيات. يستخدم المشاهدون الأنماط الجاهزة أو الأصلية (التي تشير إلى الأنماط الأولية ليونج) لفهم دوافع الشخصيات. وبمجرد التعرف على بنية الدوافع، يتم التماهي معها.
7. وظائف الفيلم للحياة
يتناول هذا الجزء كيف يستخدم الناس الأفلام في حياتهم اليومية لتحقيق أهداف معينة.
التثقيف والتعليم: الأفلام يمكن أن تكون وسيلة للاتصال. وبالرغم من التحفظات، أثارت الأفلام حماس المربين كوسائل تعليمية، خاصة في المستويات المتقدمة. يمكن استخدام الأفلام في تدريس الطب (مثل *ماجنوليا صلب* عن تأثير الأمراض المزمنة على العائلة) أو علم النفس (لمناقشة نظرية الشخصية والمرض النفسي).
العلاج النفسي (السينما العلاجية): الأفلام يمكن أن تكون "وسيلة" علاجية. يمكن أن يلجأ المعالج إلى استخدام الأفلام لمساعدة مرضاه على فهم أنماط التفكير المزعجة (العلاج المعرفي-السلوكي)، أو فهم قيمهم وطموحاتهم (الإنساني)، أو فهم صراعاتهم الداخلية (الديناميكي). على سبيل المثال، استُخدم فيلم *كابوس في شارع إلم* في علاج مراهق لمساعدته على التعرف على مصدر سخطه.
الوظائف اليومية (الاستخدامات والإشباعات): يسعى الناس إلى إشباع حاجاتهم ورغباتهم عبر الأفلام.
* الترفيه والمتعة: وهي الوظيفة الأكثر شيوعاً.
* التحكم بالمشاعر (إدارة الحالة المزاجية): مثل استخدام الكوميديا لتخفيف التوتر أو أفلام الحركة والمغامرات للحصول على دفعة شعورية (الإثارة).
* أغراض اجتماعية: مثل ارتياد دور العرض كذريعة للقاء الأصدقاء، أو لتخفيف وطأة الشعور بالوحدة عبر التفاعل الرمزي مع القصة وشخصياتها.
* الهروب: الهروب من الهموم أو الروتين اليومي.
* تطوير الذات: الأفلام قد تزود المشاهدين بلمحة عن طرق أخرى للعيش، وقد تساعدهم على التأمل في حياتهم الخاصة.
الوظائف التحويلية (العيش بوسيلة): يشير البعض إلى أن الأفلام هي "وسيلة للعيش". يمكن للأفلام أن تؤثر على الفعل البشري، وأن تكون بمثابة إرشادات أو أوامر مضمرة. الأفلام توفر "محاكاة رمزية" للخبرات الحياتية، تتيح للجمهور الانغماس في مواقف شبيهة بمواقفهم الحياتية. الأفلام يمكن أن تساهم في تشكيل الهوية، حيث تصبح ذكرياتنا عن الفيلم جزءاً من هويتنا (القصص التي نرسم بها ذواتنا).
8. تأثير الأفلام على السلوك والأفكار
العلاقة بين التعرّض للإعلام والسلوك هي موضوع واسع في الأبحاث.
ظاهرة المُحاكاة: هي انتقال السلوكيات من الفيلم إلى الواقع. المحاكاة قد تكون تفاهات (مثل تسريحة الشعر أو تعابير اللغة)، أو قد تكون خطيرة (مثل محاولة جون هينكيل لاغتيال الرئيس ريغان بعد مشاهدة *سائق التاكسي*). الأفلام قد تؤثر على السلوك بطرق لاواعية تتجاوز تجربة المشاهدة المباشرة.
تأثير السلوكيات العدوانية: أظهرت دراسات مثل تجربة دُمية بوبو (باندورا) أن الأطفال الذين شاهدوا نماذج عنيفة للسلوك (في الأفلام أو الواقع) قاموا بعدد أكبر من الأفعال العنيفة. ويُفسر هذا عبر نظرية التهيئة السلوكية؛ حيث يوفر التعرض للإعلام صوراً ونماذج سلوكية تظل هاجعة لحين يطرأ موقف يتوافق معها.
التأثير على الأفكار والمواقف: الإعلانات تؤثر على كيفية تصنيف الجمهور لعالمه وفهمه وتقييمه. الأفلام تساهم في عملية التثقيف الاجتماعي التي يتعرف الناس خلالها على التوقعات المجتمعية.
* النمطية والصور السلبية: أظهرت الدراسات أن التعرّض لصور العنف المُفرط قد يتسبب في تقليص الاستجابات الشعورية، حيث قد تُصاب المشاعر بالتبلد. هذا التبلد يُثير مخاوف من أن يصبح الناس أقل استعداداً للحيلولة دون وقوع العنف في العالم.
* الدعاية والتأثير التراكمي: الأفلام يمكن أن تكون دعائية. بعض الأفلام مثل *انتصار الإرادة* كانت صراحة دعائية نازية. إن المشكلة الأوسع هي التأثير التراكمي للإعلام. هذا التأثير يفرض أن طرق التفكير تميل إلى التكيف مع صور الإعلام، وأن وسيلة الإعلام أهم من محتواها. كلما شاهدنا عدداً أكبر من الأفلام، بدأنا نرى العالم كفيلم.
لقد تطرق الكتاب باستفاضة إلى الآثار السلبية والمقلقة لتعرُّض المشاهدين للأفلام، خاصة فيما يتعلق بمسائل العنف والسلوكيات المنحرفة وتعلم الأفعال السيئة. وتبرز هذه الآثار من خلال ظاهرة المحاكاة السلوكية، وتأثير العنف الإعلامي على العدوانية، وتشويه الإدراك الاجتماعي للأمراض النفسية.
الآثار السلبية على المشاهدين
أولاً: المحاكاة المباشرة للسلوكيات الخطيرة
إن أحد أكثر المظاهر خطورة وتأثيراً هو انتقال السلوكيات من الفيلم إلى الواقع، فيما يُعرف بظاهرة "المحاكاة".
1. اغتيال الرئيس ريغان: يُعدّ جون هينكيل الابن، الذي حاول اغتيال الرئيس رونالد ريغان عام 1981، مثالاً بارزاً لهذا التأثير. لقد شاهد هينكيل فيلم "سائق التاكسي" (Taxi Driver) عدة مرات في دور العرض، وأوحى له الفيلم بمحاولة الاغتيال لجذب انتباه الممثلة جودي فوستر، التي كان مهووساً بها عاطفياً. وقد نجح في إصابة ريغان وعدد من الأفراد بجروح خطيرة.
2. تقليد الأفعال الانتحارية والعدوانية: ارتبط عدد لا يُحصى من الجرائم بالأفلام.
* حدث أن أقدم مراهق على إطلاق النار على صديقه محاكياً مشهداً مثيراً في فيلم "الأحمق" (Jack Ass).
* فيلم "صائد الغزلان" (The Deer Hunter) تسبب في أكثر من 30 واقعة محاكاة لمشهد لعبة الروليت الروسية، أسفرت عن عدد كبير من الوفيات.
* أظهرت دراسة أن ربع المراهقين المحبوسين ممن شملتهم الدراسة حاولوا ارتكاب جريمة محاكاة لمرة واحدة على الأقل.
3. تأثير العنف المدرسي: يشير الكاتب إلى أن الشابين هاريس وكليبولد، مرتكبي مذبحة كولومباين، استخدما اختصار (ق. ب.) في يومياتهما، والتي تشير إلى "قتلة بالفطرة" (Natural Born Killers)، وقد يكون سلوكهما قد تأثر بأفلام مثل "قتلة بالفطرة" و"ماتريكس" (The Matrix)، خاصةً فيما يتعلق بارتدائهما للمعاطف الطويلة.
ثانياً: تعلم السلوكيات العدوانية وتكوين الأنماط السلوكية
تركز الأبحاث على أن التعرض لصور العنف في وسائل الإعلام، بما في ذلك الأفلام، يمكن أن يزيد من احتمالية السلوكيات العدوانية لدى الأطفال على المديين القريب والبعيد.
1. نظرية التعلم الاجتماعي (تجربة دمية بوبو): أظهر ألبرت باندورا من خلال دراسة "دمية بوبو" أن الأطفال الذين شاهدوا نماذج سلوكية عنيفة (سواء في الأفلام أو في الواقع) قاموا بعدد أكبر من الأفعال العنيفة مقارنة بأقرانهم الذين لم يشاهدوا تلك النماذج.
* كما أن الأطفال الذين شاهدوا العنف قاموا بمحاكاة النماذج بدقة متناهية، ووصل الأمر إلى ترديد العبارات ذاتها التي قام النموذج بترديدها,.
2. النتائج الطولية (طويلة الأمد): وجدت دراسات طولية واسعة النطاق أن الأطفال الذين كانوا الأكثر مشاهدة لبرامج التلفزيون العنيفة في سن الثامنة، أصبحوا أكثر عرضة للتورط في جرائم خطيرة (مثل القتل، والاغتصاب، والاعتداء، والسرقة) عند بلوغهم سن الثلاثين.
3. التهيئة السلوكية: التعرض المتكرر للإعلام يوفر صوراً ونماذج سلوكية تظل كامنة، وحين يطرأ موقف يتوافق معها، يصبح الأفراد مهيئين سلفاً للتصرف بعدوانية، حتى لو كانوا غير واعين بالتأثير الذي يدفعهم إلى هذا السلوك.
4. العنف العلائقي: وثقت دراسات تحليل المضمون ارتفاع معدلات "العنف العلائقي" في برامج الأطفال، وهو عنف يتضمن أفعالاً مؤذية لكنها غير مباشرة، مثل ترويج الشائعات، والإقصاء، والمعاملة الصامتة. ولوحظ أن شخصيات ديزني "الطيِّبة" و"الشريرة" تتورط على حد سواء في ممارسة العنف العلائقي.
ثالثاً: تعلّم السلوكيات المنحرفة والممارسات السيئة
تشمل السلوكيات السيئة والمنحرفة التي يمكن أن تتأثر بالأفلام تعاطي المخدرات والممارسات الجنسية المنحرفة، والتي يكثر تصويرها في الأفلام:
1. تعاطي المخدرات والتدخين:
* التعاطي المزمن للكحول والمخدرات، إلى جانب التدخين، هي موضوعات متواترة في تحليل مضمون الأفلام.
* أظهرت دراسة حديثة أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين التاسعة والثانية عشرة والذين كانوا الأكثر تعرضاً للتدخين في الأفلام، كانوا أكثر ميلاً لتجريب التدخين بعد عامين.
* يتم تصوير التدخين في الأفلام غالباً في سياق سلبي، كالارتباط بالسلوك العدواني أو تقليل التوتر، وقد يؤدي ذلك إلى "تجريب" التدخين لدى بعض الأطفال.
2. تصوير الجنس والسلوك المنحرف:
* التمثيلات الجنسية تثير اهتماماً بحثياً كبيراً، وقد وُجد أن الذكور المتهمين بارتكاب جرائم جنسية يستهلكون مواد إباحية ذات محتوى عنيف جنسياً أكثر من الرجال غير المؤذيين جنسياً.
* فيما يتعلق بأفلام "سالشر" (Slasher films)، وجدت دراسات أن هناك نموذجاً يتم بموجبه نجاة الفتيات "الطيِّبات" بينما تهلك الفتيات "الرشيرات". ويُفسر هذا الارتباط بين النشاط الجنسي والموت المحتوم للشخصيات النسائية في هذه الأفلام.
* الأفلام التي تتناول العلاقات الحميمة قد تروج لتصرفات لا تتفق مع أخلاقيات المهنة، مثل فيلم "ولهان" (The Psych)، الذي يصور طبيباً نفسياً يقيم علاقة عاطفية مع إحدى مريضاته.
رابعاً: التبلد الشعوري وتشويه الإدراك النفسي
تؤدي الأفلام إلى آثار نفسية سلبية تتجاوز السلوك المباشر، وتؤثر على كيفية إدراك المشاهدين للعالم والمشاعر:
1. التبلد الشعوري تجاه العنف: التعرض لصور العنف المُفرط قد يتسبب في "تبلد المشاعر".
* أظهرت الدراسات أن الرجال الذين شاهدوا أفلام "سالشر" كانوا أقل تعاطفاً مع الضحية في شريط فيديو لمحاكمة جريمة اغتصاب، مقارنة بمن لم يشاهدوا تلك الأفلام.
* يثير هذا التبلد مخاوف من أن يصبح الناس أقل استعداداً للحيلولة دون وقوع العنف في العالم.
2. تشويه صور المرض النفسي: تميل الأفلام إلى تقديم صور مشوهة ومبالغ فيها للاضطرابات النفسية، وتُصنّف الشخصيات المصابة بأمراض نفسية ضمن أنماط مثل:
* القاتل المهووس: مثل نورمان بيتس في *سايكو*، وهي صورة تبلغ ذروة الإفراط في التبسيط. وهذا يتعارض مع واقع أن أغلب المرضى النفسيين ليسوا عنيفين.
* الروح الحرة المستنيرة أو الغاوية.
* أكدت دراسات أن التعرّض للصور السلبية للمرض النفسي في الإعلام يؤثر على طريقة إدراك المشاهدين للمرض النفسي.
3. التأثير على المرضى الحقيقيين: أكدت إحدى الحاصلات على درجة علمية مرموقة في دراسات نفسية أن الصور السلبية في الأفلام، خاصة التي تصور القاتل المهووس، جعلتها تتردد في البوح بمرضها (الفصام)، خوفاً من أن يُنظر إليها على أنها "قاتلة مهووسة".
4. الفزع والخوف الشديد: يمكن للأفلام أن تثير استجابات انفعالية قوية مثل الخوف والقلق الشديدين.
* تُعد استجابات الخوف أقوى لدى الأطفال مقارنة بالبالغين.
* تم تسجيل حالات لأشخاص أصيبوا بأعراض قلق حادة، واضطرابات في النوم، وذكريات تطفلية بعد مشاهدة أفلام مثل "طارد الأرواح الشريرة" (The Exorcist).
خلاصة مجازية:
يمكن تشبيه الأفلام التي تحتوي على هذه الآثار السلبية بـ "المطعم السريع" للعقل والسلوك. فكما أن الوجبات السريعة (العنيفة أو المنحرفة) تلبي رغبة فورية بالإثارة أو المتعة المؤقتة (الإشباع)، فإنها تزرع في النظام السلوكي والمعرفي للمشاهد (خاصة الأطفال) مواداً "مُهيئة" (Primers) يمكن أن تسبب الضرر وتؤدي إلى عادات سيئة (المحاكاة والعدوانية) على المدى الطويل، مما يؤثر على الصحة النفسية والاجتماعية للفرد وإدراكه للواقع.
الخلاصة: الصورة الكاملة
الأفلام فاعلة وذات سطوة. إنها ليست مجرد مصادر خطر أو وثائق ثقافية. إنها تُعلّم وتُسلّي، وهي أيضاً أشكال من الشعر السردي البصري. الأفلام يمكن أن تكون هبة، ولكنها هبة خطيرة، يمكن أن تدمّرنا أو ترتقي بنا.
النشاط الرمزي المرتبط بمشاهدة الفيلم ينطوي على أربع عمليات نفسية متكاملة:
1. الإدراك الحسي (Sensory Perception): رؤية الصور وسماع الأصوات.
2. الاستيعاب والمشاعر (Comprehension and Emotion): فهم القصة والشعور بها.
3. التفسير والتقييم (Interpretation and Evaluation): تحديد معنى الفيلم وتقييم جودته.
4. الوظيفة والتأثير (Function and Impact): كيفية استخدام الفيلم في عالم الواقع (الوظيفة)، وما يتركه الفيلم من أثر (التأثير).
إن الأفلام تؤثر بالفعل على حياة الناس. إنها ليست أشياء خاملة، بل تلعب دوراً مساعداً في تشكيل بعض السلوكيات والأفكار لدى عدد كبير من الناس. إن الأفلام، بطبيعتها الرمزية المعقدة، تُتيح عدداً هائلاً من المعاني التي يضفيها مليارات البشر الذين يشاهدونها. ولن تتمكن الأبحاث العلمية أبداً من التوصل قاطعة لتحديد وتقدير جميع التأثيرات المحتملة على جميع الناس المحتملين.



اضف تعليق