لأول مرة يتحقق النصاب البرلماني بشكل يفوق التوقعات فمقاعد النواب لا تكفي للشباب "المنتفضين".. تخبط كبير داخل البرلمان العراقي من قبل المسؤولين وعناصر الامن وهيئة الرئاسة والنواب، اثر اقتحام حشد من المتظاهرين المجتمعين في ساحة التحرير وسط بغداد المنطقة الخضراء ودخولهم مبنى البرلمان واعتصامهم داخل قاعة المجلس، وذلك بعد ان فشل مجلس النواب العراقي في عقد جلسة التصويت على التشكيلة الوزارية الجديدة لعدم اكتمال النصاب. ولا شك ان تصريحات مقتدى الصدر التي سبقت جلسة البرلمان كان لها الأثر الكبير على اقتحام الجماهير الغاضبة للمنطقة الخضراء.

مشاهد المواطنين "المنتفضين" التي بثتها وسائل الاعلام المحلية والعالمية كانت جديدة بكل المقاييس، فهذه هي المرة الاولى التي يستطيع عدد من المواطنين بهذا الحجم من الدخول الى اسوار المنطقة الخضراء من دون باجات خاصة او وساطات من الشخصيات المتنفذة والمنتمين للأحزاب الحاكمة. فالمواطن اليوم هو من يحدد مسار الامور على الاقل في هذه الايام التي تتنفس الاصلاح صباحا ومساء. فقد وقف الشعب متحكما بنوابه متجاوزا كل الصيحات السياسية التخوينية والتخويفية.

والفيديو الذي نشر في مواقع التواصل الاجتماعي الذي وقع فيه النائب عمار طعمة بين رحمة ضربات الغاضبين كان كفيلا بتحطيم الامال لكل سياسي يعول على ذاكرة البعوض لدى المواطن العراقي. والنواب الذين استطاعوا الهرب من واقعة النائب عمار طعمة لم يعودوا يأمنون على حياتهم في المنطقة الخضراء والبحث يجري الان عن مناطق امنة وقد لا يكون العراق من ضمن خيارات الامن بالنسبة لبعض السياسيين الذين اعتادوا اخذ الاوامر من الخارج والمصادر تشير الى اخلاء عوائل المسؤولين بالزوارق عبر نهر دجلة.

الأحزاب التي تربعت على صدور العراقيين بالحيل والمكر والفساد وهدر المال العام هي اليوم اضعف من أي وقت مضى، واقتحام البرلمان اضعف امال الكثيرين منهم بإمكانية عودة الأمور الى ما قبل تاريخ اليوم. لكن ذلك لا يعني اننا امام طريق معبد للوصول الى تحقيق المطالب الشعبية فكما ان هناك نقاط قوة للشعب فان القوى الخاسرة ستستخدم كل ما في ترسانتها الدعائية وأساليب الخداع وتحويل الانتباه من اجل الإبقاء على حظوظها في الساحة العراقية.

ما يلاحظ على حركة الاحتجاجات الاصلاحية التي يقودها التيار الصدري هي الاستمرارية والانضباط العالي، وهناك نقاط تحوّل مهمة على طول المدة التي شهد موجة التظاهر والواضح ان كل تحوّل كان يصب في صالح المتظاهرين رغم استماتة بعض الكتل السياسية لإفشال مطالب الاصلاح او الالتفاف عليها وفي نقطة التحول هذه (اقتحام البرلمان) نعتقد انها تسير وفق ثلاثة سيناريوهات على المتظاهرين استثمار افضلها وهي كالاتي:

اولا: حل البرلمان واجراء انتخابات مبكرة؛ وفق ظروف كهذه يتوقع في أي لحظة حل البرلمان ولكن التجربة العراقية والازمات التي تعرضت لها البلاد في السابق لم تؤدي الى حل البرلمان وهذا الخيار غير مفعل في العراق لأسباب عديدة تتعلق بالطبيعة السياسية المحاصصية والطائفية ورغبة كل الكتل السياسية في الحفاظ على مصالحها وعدم تجاوز الاتفاقات المبرمة خارج الاطار الدستوري. لكن عملية اقتحام البرلمان بهذا الحجم قد يرجح حله كونه فقد شرعية البقاء والاستمرار واذا لم يتم حله فسيكون عبئا على الدولة العراقية.

ثانيا: رضوخ السياسيين وتشكيل حكومة تحقق رغبة المتظاهرين؛ وهذا الخيار مرجح بقوة وكما اسلفنا فالكتل السياسية اليوم مثل القوارب الخاوية التي تتلاعب بها موجات التظاهر الشعبية. وفي الوقت نفسه لا يمكن تجاهل دور سياسيين لا يمكنهم ان يقبلوا بهذا الوضع ومستعدين للذهاب بالعراق الى ابعد نقطة من الفشل بغية المحافظة على مصالحهم. الا ان الوضع يشير الى تصلب قوة الشعب يوما بعد اخر ما يجعل البعض يتفاءل بإمكانية تحقيق ما اخفقت عنه الجولات السابقة.

ثالثا: فوضى شاملة؛ منذ انطلاق نداءات الاصلاح وتحذيرات نشوب الفوضى تتزايد معها بفضل الوقود الدعائي الذي يوفره التخويف من عودة الاقتتال الطائفي في الاعوام السابقة، وهي نداءات انقسمت بين من يريد قتل الاصلاح بدعاية التخويف واخرى كانت صادقة وتخشى على المدنيين واستغلال المندسين لغضب الجماهير واشعال نار الصراعات الجانبية من اجل التقليل من فعالية الحرب على الفساد، لكن كل المؤشرات تؤكد ان المتظاهرين لا يزالون محافظين على مستوى منقطع النظير في الانضباط، وحتى دخولهم للخضراء جاء بعد جولات عديدة بين التهديد والانسحاب حتى اتت اللحظة المناسبة تخللها توثيق العلاقة مع القوات الامنية العراقية. وما يهدد هذا الانضباط كما في كل تظاهرة سلمية هو وجود المندسين او الاشخاص الانفعاليين الطامحين للانتقام.

هناك من يعول على انهاك الجماهير او الملل الذي يصيبها وذلك اعتقاد نابع من حسابات خاطئة فالمواطن اليوم عازم على استرداد حقوقه على الاقل هذا ما يفسره الاصرار على المشاركة في التظاهر ولسان حال الشعب يقول ان الامور لا يمكن ان تتحول الى اسوء مما هي عليه الان. ونعتقد ان هذه الانتفاضة الجماهيرية لو استثمرت بشكل صحيح فإنها ستقلب الاوضاع رأسا على عقب والكلام هنا يدور عن تعاون جميع مكونات الشعب العراقي من سنة وشيعة واكراد لإعلان العصيان على الاحزاب الحاكمة.

الجمهور الشيعي هو اساس هذا الحراك والمسؤولية اليوم تقع على الجمهور السني والكردي واذا لم تستثمر المكونات الثلاثة هذه الفرصة فالتاريخ سيلعن الجميع وسيندم من لم يدقق حسابات وينتزع ثوبه الطائفي في اللحظة الحاسمة، والانتفاضة الشعبية لا تزال تضغط على المفسدين ويبدو ان المستقبل لصالح المواطن بكل الاحوال وثقافة المواطنة باتت سلوكا مفضلا للكثير بعيدا عن الرؤية الحزبية والطائفية الضيقة.

اضف تعليق