تتميز ايران بعلاقاتها المتشعبة مع العراق بين سائر الدول المجاورة لنا، فضلاً عن الحدود الممتدة الى طول حوالي (1600) كيلومتر، بأبعاد اقتصادية واسعة، فان عديد المجالات الموجودة في ملف هذه العلاقات، تضع ايران أمام استحقاقات أكيدة بشأن مستقبل علاقاتها مع العراق على الاصعدة كافة، سواءً الاقتصادية منها أو السياسية وحتى الثقافية، وهي تعرف قبل غيرها أن العراق في الوقت الراهن ما يزال يراوح – رغم اكثر من عقد على انتقاله من الديكتاتورية الى الديمقراطية- عند "مربع" البنية التحتية ومحاولة إعادة بناء مؤسساته الاقتصادية والسياسية، لذا فانه مفتوح دائماً على كل الخيارات، مما يفرض عليها اتباع سياسة غاية في الدقة والذكاء توازن فيها بين مصالحها وبين الكيانات والاطراف المكونة لـ "المصلحة العراقية".
المؤسسات الدينية والثقافية تمثل أكثر المجالات حساسية في علاقات ايران مع العراق، بل يمكن عدّها من أبرز ما تختص به هذه العلاقة بين العلاقات مع دول الجوار ودول العالم، نظراً للمشتركات الدينية والتاريخية والاجتماعية.
وهناك اعتقاد لدى بعض الاوساط الايرانية بأن البنية الثقافية، كما البنية الاقتصادية والسياسية تعرضت للتصدّع بسبب السياسات الخاطئة للنظام البائد، وعليه بالامكان المشاركة في إعادة البناء الثقافي في العراق، ومحاولة رسم "خارطة طريق ثقافية" للعراقيين، تضم منظومة السلوك والعادات، وذلك من خلال التأثير على المؤسسة الدينية تحديداً متمثلة بالحوزة العلمية، والمؤسسات الثقافية المتفرعة منها، وتعليلهم في ذلك، أن ايران لها باع طويل في المجال الثقافي والديني، ولها تجارب ثرية اكتسبتها خلال العقود الاربعة الماضية.
مع الاخذ بنظر الاعتبار التجارب الثرية في مجال العلاقة بين المجتمع والمؤسسة الدينية في ايران، والتي يعود تاريخها الى تاريخ العلاقة بين الحوزة العلمية وعلماء الدين بالدولة ومؤسساتها في ايران، بيد أن ما يجب أخذه بنظر الاعتبار ايضاً نمط العلاقة القائمة بين المجتمع العراقي ومؤسسته الدينية – إن صحّ التعبير- فاذا كانت ثمة انعكاسات لتلك العلاقة على المنظومة الثقافية والمعرفية في ايران، فان هنالك انعكاسات مماثلة للحوزة العلمية في العراق على المنظومة الثقافية للشعب العراقي. وما يميز بين التجربتين؛ أن الاولى كانت منطلقاتها سياسية، حيث كانت العلاقة قائمة بين الدولة ومؤسساتها وبين الحوزة العلمية وعلماء الدين، وكانت البداية في الدولة البويهية في القرن الرابع الهجري، حيث فرضت تأثيراتها السياسية والثقافية على العراق وتحديداً على عاصمة الدولة العباسية "بغداد".
بينما في التجربة الثانية، نلاحظ المنطلق العقائدي الذي كان يدفع شرائح المجتمع لتوثيق العلاقة مع الحوزة العلمية منذ بواكير تأسيسها في العراق على يد الشيخ الطوسي في مدينة بغداد أواسط القرن الخامس الهجري، ثم انتقاله الى النجف الأشرف عام 448 للهجرة، مع كبار العلماء والفقهاء أثر أزمة طائفية افتعلها السلجوقيون إبان سيطرتهم على مقاليد الامور في بغداد.
وبنظرة خاطفة على التاريخ السياسي والاجتماعي للعراق في تلك الفترة يتضح أن شيعة العراق وعلى وجه التحديد كانوا يجدون في علماء الدين وفي الحوزة العلمية بمنزلة نقطة الضوء او الفنار الذي يلجأون اليه لمواجهة المخاطر من جهة، ولتنظيم شؤون حياتهم من جهة أخرى، مع عدم وجود العلاقة الايجابية مع الحاكمين، لاسيما وأن الدولة العثمانية التي احتلت العراق طيلة قرون من الزمن لم تدخر كثيراً من المآثر والمكاسب سوى المظالم والتجاوزات على حقوق الناس وتجاهل عقائدهم وانتهاك حرماتهم. وقد مثلت ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني الذروة في مرحلة النضج في هذه العلاقة العتيدة.
هذه العلاقة واكبت التحولات السياسية في العراق خلال القرن العشرين، وفي ظل العلاقة المختلّة بين المجتمع والدولة التي بنيت على أسس استعمارية، تطورت هذه العلاقة، وربما يمكن القول: أنها سبقت وتجاوزت التطورات السياسية، فبينما كان البناء السياسي يزداد هشاشة وانحرافاً عن الخط الصحيح، كانت العلاقة بين المجتمع والحوزة العلمية و ايضاً مع علماء الدين تتطور بشكل عمودي، فبعد الشريحة العامة من المجتمع، بدأت الشريحة المثقفة والمتعلمة تقترب من أجواء الحوزة العلمية، فكانت – وما تزال- اللقاءات المستمرة بين الادباء والمؤرخين والاكاديميين وبين علماء دين كبار وخطباء واساتذة في الحوزة العلمية.
من هنا تحديداً، ينبغي على المعنيين بالامر في ايران أن يعوا طبيعة العلاقة بين عالم الدين في العراق وبين الانسان العراقي، مع تذكيرنا بأن الحوزة العلمية لها دور حضاري يتجاوز الحدود الجغرافية والفوارق الأثنية، إنما تهدف الى بناء الانسان كانسان، من خلال نشر علوم وثقافة أهل البيت، عليهم السلام. هذه العلاقة قائمة على الوجدان بالدرجة الاولى، لذا فان التفاعل الذي نشهده في مراحل مختلفة من تاريخنا المعاصر، له منطلقات ذاتية ومن كوامن النفوس، وهذا ما لاحظناه من خلال ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، وخلال المد الشيوعي وتفاعل الناس مع علماء الدين لمواجهة هذا الخطر الفكري، ثم خلال العهد البعثي في بدايته وفي أوج قوته وغطرسته، وفي أواخر ايامه في التسعينات، وحتى اليوم، حيث نشهد التفاعل الذي عدّه البعض بأنه مفاجئ وعجيب، مع فتوى الجهاد لمواجهة التنظيمات التكفيرية والارهابية.
كل هذه الحقائق تؤكد الحاجة الى تعامل من نوع خاص مع الحوزة العلمية وعلماء الدين في العراق، بشكل يشمل اكبر مساحة ممكنة من الحضور الجماهيري – الشيعي- وهذا من شأنه ان يعزز العلاقة، ليس فقط بين هذه الحوزة وعلمائها وبين الحوزة وعلماء الدين في ايران، وإنما يعزز الثقة بين الانسان العراقي وبين الدولة الايرانية على الاصعدة كافة، لأنها توجهت بالعلاقة المتساوية مع جميع المراكز والمؤسسات والمدارس المهتمة بالعلوم الدينية والثقافة الاسلامية، فهذه المراكز بشكل عام هي التي تمثل عامة المجتمع العراقي – الشيعي.
اضف تعليق