لم يعد امتلاك السلاح وحده هو الذي يجعل الدول قوية ومهابة، وإن كان وجوده ضروريا من خلال الجيوش الوطنية التي يجب أن تحتكر وحدها السلاح ليكون سيف الدولة في الدفاع عنها، اما اذا تعددت المسميات العسكرية فان الدولة لم تعد واحدة وحينها سينشغل ابناؤها بالحفاظ على توازن الرعب الداخلي بينهم ما يبقي قدرات دولتهم مشلولة...

من التجارب الكبيرة على مستوى الدول، أرى أن الصين هي التجربة الابرز عالميا، ليس بقفزتها الكبيرة في العقود الاخيرة، بل في كيفية تغلبها على نفسها باستمرار ونهوضها بعد كل كبوة كبيرة تحصل لها، وأجد ان من الضروري أن يقرأ كل مهتم بالسياسة تاريخ الصين الحديث والمعاصر، ليقف على التجارب المريرة التي خاضها هذا الشعب قبل أن يصل إلى ما وصل اليه اليوم.

لقد عاشت الصين ومنذ مطلع القرن الماضي ظروفا سياسية متقلبة، نتيجة الانقسامات العقائدية الحادة، اذ كانت تحت حكم اسرة تشينغ ومنذ العام 1644 قبل انهيارها على يد الفيلسوف والثائر (صن يات صن) الذي اقام الجمهورية الليبرالية في العام 1911، منهيا الحقبة الملكية الطويلة، لكن البلاد وجدت نفسها امام تحديات كبيرة اضيفت إلى ما كان عليه وضعها المتردي اصلا، حيث جزيرة هونغ كونغ تحت الحكم البريطاني منذ العام 1842 والذي انتهى في العام 1997 وكذلك جزيرة مكاو التي كانت تحت حكم البرتغال، وعادت للسيادة الصينية في العام 1999 بالاضافة إلى إقليم منشوريا المحادد لروسيا الذي احتلته اليابان في العام 1931 وعاد لسيادة الصين نهاية الحرب العالمية الثانية 1945. 

لكن المحنة الاكبر التي عاشتها هذه البلاد هي الصراع بين الوطنيين (الكومنتاج) وهو الحزب الذي اسسه صن يات صن والشيوعيين (حزب الشعب)، الذي تأسس بعد وقت قصير من قيام الجمهورية بقيادة ماو تسي تونغ، ودخل في صراع مرير مع (الكومنتاج) تطور إلى حرب اهلية بين الجانبين، وقد انتهت هذه الحرب في العام 1949 بانتصار الشيوعيين، الذي حظوا بدعم الاتحاد السوفييتي وقتذاك. 

لكن الوطنيين أو القوميين (الكومنتاج)، هربوا إلى جزيرة تايوان ليشكلوا حكومة منفى اعترف بها الغرب الرأسمالي ومنحها حق تمثيل الصين بأكملها في الامم المتحدة وكذلك اصبحت تمتلك حق النقض (الفيتو) في مجلس الامن، وبإزاء هذه التمزقات كان الزعيم الصيني ماو تسي تونغ غارقا في احلامه العقائدية ويتطلع إلى ان تسود الشيوعية العالم، ويسعى بالفعل لذلك!.

لقد عانى الشعب الصيني، على الرغم من أن قيادته الشيوعية كانت تتطلع إلى الارتقاء به وسعت إلى ذلك، لكنها كبلت نفسها وكذلك شعبها بطوق عقائدي حاد وثقيل في الداخل ومواقف سياسية خارجية فرضت عليها استحقاقات قاسية، لا سيما اثناء الحرب الباردة وموجة الاستقطاب الكبيرة التي شهدها العالم وقتذاك. 

الّا أن الصين التي قرأت المستقبل بعين مفتوحة على سعتها، أعادت النظر بسياساتها الداخلية والخارجية، بعد رحيل الزعيم القوي والمتشدد عقائديا ماو تسي تونغ، وانفتحت على شعبها من خلال تخليها عن النزعة العسكرية المتكئة على عمق عقائدي لم يعد له مبرر بعد ان استقر العالم على رؤى جديدة، وصار يتنافذ مع بعضه اقتصاديا وثقافيا بشكل كبير، ما دفع بقيادة الصين ما بعد ماو إلى الاهتمام بالداخل وتطوير الصناعة والزراعة واقامة نهضة علمية ابهرت العالم وتصدرته بعد عقود قليلة وصارت مثلا يحتذى بعد أن كانت تريد ان تفرض مثلها العقائدي والسياسي على العالم، وبات هذا عامل تكبيل واستنزاف لقدراتها التي اخذت تتفاعل في الداخل وتعود اليها بقوة اقتصادية جعلتها المنافس الأكبر لأميركا.  

الخلاصة هي انه لم يعد امتلاك السلاح وحده هو الذي يجعل الدول قوية ومهابة، وإن كان وجوده ضروريا من خلال الجيوش الوطنية التي يجب أن تحتكر وحدها السلاح ليكون سيف الدولة في الدفاع عنها، اما اذا تعددت المسميات العسكرية فان الدولة لم تعد واحدة وحينها سينشغل ابناؤها بالحفاظ على توازن الرعب الداخلي بينهم ما يبقي قدرات دولتهم مشلولة ولا تستطيع التقدم إلى الأمام، وستنعدم الثقة بفكرة الدولة ومؤسساتها لتغدو بالنتيجة ضعيفة ومن ثم فاشلة .. وهو ما لا يريده أي وطني مخلص لوطنه وشعبه.

اضف تعليق