ان الاندفاع اللحظي كثيرا ما يتغلب على المعرفة. السائق المستعجل ينسى كل التحذيرات في لحظة ضجر أو رغبة في تجاوز مركبة أمامه، والموظف المضغوط بوقت التسليم يغفل الخطوات الأساسية في العمل، فيتكرر الخطأ رغم معرفته المسبقة به، لاسيما وان العقل في لحظات التوتر قد ينفصل عن الدروس المخزونة ويستجيب للعاطفة أو الضغوط...
على الرغم من أن الأخطاء تحيط بنا يوميا، وأن مشاهد الحوادث أو العقوبات والإخفاقات تتكرر أمام أعيننا، يبقى السؤال الأكثر إرباكا، لماذا لا نتعلم منها؟ فحوادث المرور ما زالت تتكرر رغم التحذيرات، والسائق يرى حادثا وقع قبل دقائق لكنه يواصل سيره بالسرعة نفسها!
وفي المؤسسات، يقع الموظف في الخطأ ذاته الذي عوقب عليه زميله قبل ساعات فقط، هذا التناقض بين المعرفة والسلوك يكشف جانبا عميقا في النفس البشرية وطريقة تعاملها مع الدروس غير المباشرة.
غالبا ما يبدأ الأمر بما يسميه علماء النفس "الانحياز للتفاؤل"، وهو شعور داخلي يجعل الإنسان يعتقد أن الأخطار تحيط بالآخرين وليس به شخصيا.
السائق الذي يشاهد حادثا يظن أن ضحيته كان متهورا، ويتجاهل أن السلوكيات نفسها قد تقوده إلى المصير ذاته، بينما الموظف الذي يرى زميله يعاقب بسبب خطأ إداري يعتقد أن هذا الخطأ واضح، وأنه لن يقع فيه لأنه يظن نفسه أكثر انتباها، وهكذا يتحول الخطأ من درس مفتوح للجميع إلى قصة تخص شخصا بعينه.
التجارب العملية تكشف أن العادة أقوى من التحذير، فالسائق الذي اعتاد تجاوز السرعة يجد صعوبة في تغيير سلوكه حتى لو شاهد حادثا مروعا، لأن العقل يعود سريعا إلى نمطه القديم.
وفي بيئة العمل يحدث الأمر نفسه، إذ يتراجع تأثير الخطأ الذي شاهده الموظف مع مرور الوقت، وتتلاشى أمام ضغط العمل وسرعة الروتين، الذاكرة السلوكية ويبقى الفعل المعتاد هو المسيطر.
وتأتي مشكلة أخرى لتعمق هذا السلوك، وهي شعور الإنسان بأن خطأ الآخرين لا يعنيه بشكل مباشر، حين نشاهد فشل شخص ما، نميل إلى تفسيره على أنه نتيجة نقص في مهارته أو وعيه، وليس بسبب موقف قد نُبتلى به نحن أيضا.
السائق يعتقد أن الحادث سببه سائق جاهل او لا يملك المهارة الكافية، والموظف يظن أن عقوبة زميله جاءت لأنه غير دقيق، وليس لديه الخبرة الكافية لتمكنه من عدم الوقوع في الإشكالية، وهكذا يفصل الفرد نفسه عن التجربة، بدل أن يتعامل معها كفرصة للتعلم.
لكن الأهم من ذلك أن التجارب التي لا نعيشها لا تترك الأثر العاطفي الكافي لتغيير سلوكنا، تأثير مشاهدة حادث يظل أقل بكثير من تجربة حادث شخصي، لأن الألم والخسارة هما اللذان يتركان بصمة حقيقية في الذاكرة؛ لذلك يتغير سلوك الفرد جذريا بعد أن يمر هو نفسه بتجربة قاسية، بينما تظل الحوادث التي يشاهدها مجرد مشاهد صامتة لا تتجاوز حدود الذهن.
وفي المؤسسات، يتكرر الفشل في تحويل الأخطاء إلى معرفة جماعية، العقوبات تُنفذ لكن الدروس لا تُناقش، وتوثيق الأخطاء يبقى شكليا أو غائبا تماما، وهنا تتحول الأخطاء إلى أحداث منفصلة بدل أن تصبح جزءا من منظومة تعلم حقيقية، فالموظف الذي شاهد عقوبة زميله يعرف النتائج، لكنه لا يعرف الأسباب العميقة التي أدت إلى الخطأ، وبالتالي لا يستفيد منه فعليا.
كما أن الاندفاع اللحظي كثيرا ما يتغلب على المعرفة. السائق المستعجل ينسى كل التحذيرات في لحظة ضجر أو رغبة في تجاوز مركبة أمامه، والموظف المضغوط بوقت التسليم يغفل الخطوات الأساسية في العمل، فيتكرر الخطأ رغم معرفته المسبقة به، لاسيما وان العقل في لحظات التوتر قد ينفصل عن الدروس المخزونة ويستجيب للعاطفة أو الضغوط.
كل هذه العوامل تكشف فجوة واسعة بين ما يعرفه الإنسان وما يفعله، وتبقى المعرفة وحدها لا تغير السلوك، بل يحتاج الأمر إلى وعي واستمرار، وإرادة منظمة لتحويل أخطاء الآخرين إلى خبرة شخصية، وحتى يحدث ذلك، ستبقى الأخطاء تتكرر، ليس لأن الدروس غير موجودة، بل لأننا لم نتعلم بعد كيف نجعلها جزءا من سلوكنا اليومي.



اضف تعليق