ان السيناريوهات التي تؤدي إلى تهدئة الصراع تبدو أكثر واقعية في المرحلة الحالية، لكنها تصطدم بعقبات واضحة، أهمها معضلة "من سيتراجع أولاً"، في ظل تمسك إيران بضرورة الخروج من المواجهة بمظهر القوي الذي استطاع ردع خصمه، ولا يُستبعد أن تلجأ ايران إلى خطوات تصعيدية ضد أهداف إقليمية أو...
شنت اسرائيل فجر يوم الجمعة 13/ حزيران، هجوم عسكري واسع النطاق على الجمهورية الإيرانية الاسلامية، في خطوة مفاجئة جاءت بعد انتهاء مهلة الستين يوماً التي منحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لايران للتوصل إلى اتفاق جديد، شملت الغارات الجوية نحو ٢٠٠ طائرة من طرازات متقدمة (F-15، F-16، وF-35)، نفذت ما يزيد عن مئات الغارات، استهدفت بنى تحتية عسكرية ومدنية، شملت مناطق ومدن مختلفة من البلاد، رافقتها عمليات اغتيال مباشرة لقيادات وعلماء نوويين إيرانيين، ما يمثل ضربة نوعية لمحور القيادة والسيطرة داخل المؤسسة العسكرية الإيرانية، بالتزامن مع هجمات سيبرانية وتسلل بري قرب القواعد الجوية، لشل قدرات الدفاع الجوي الإيراني، واعتمدت إسرائيل بشكل ملحوظ على طائرات مسيرة خفيفة، أُطلقت من داخل الأراضي الإيرانية.
خلال الأيام الثلاثة التالية لبدء الهجوم، استمرت إسرائيل في استهداف مواقع نووية، قواعد عسكرية، ومراكز صناعية، مخلفة اضرار بالغة، لاسيما في المنشآت الصاروخية، ردت إيران بعد عدة ساعات من بدء الهجوم، بإطلاق موجات من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة على العمق الإسرائيلي، خلال ثمانية أيام، نفذت إيران ١٢ هجوم، استخدمت فيها اكثر من ٤٠٠ صاروخ باليستي واكثر من ١٠٠ طائرة مسيرة، ورغم فاعلية منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي في اعتراض الرد الايراني، إلا أن فعالية الصواريخ الإيرانية أخذت بالتصاعد، إذ ارتفعت نسبة الصواريخ التي اخترقت الدفاعات من ٥% إلى ٢٠% خلال موجات الهجوم المتتالية، ما جعل الرد الإيراني يوصف بفعاليته المتصاعدة.
في ضوء ذلك، سنتناول الاستراتيجية الاسرائيلية والايرانية في المواجهة العسكرية وتقييمها، اضافة الى سيناريوهات التصعيد المحتملة بين الطرفين.
اولا/ الاستراتيجية الإسرائيلية:
تتحرك العقيدة العسكرية الإسرائيلية وفق ثلاث مسارات متشابكة:
١- استهداف محدود للقدرات النووية الايرانية: وسببه عدم امتلاك اسرائيل القدرات الهجومية الكافية لتحقيق هذا المسار لوجود كثير من المنشآت النووية الايرانية في مناطق جبلية وعرة تحت الارض، اضافة الى توخي عواقب تفجير هذه المفاعلات، لما تسببه من كارثة اشعاعية تهدد المنطقة برمتها.
٢- استهداف موسع للمواقع الصاروخية الايرانية: اذ لم تكتفِ إسرائيل بضرب المنشآت النووية، بل أولت أهمية كبيرة للمواقع الصاروخية، سواء مراكز الإنتاج أو منصات الإطلاق، ويبدو أن المشروع الصاروخي الإيراني يُنظر إليه كتهديد استراتيجي موازي للمشروع النووي.
٣- اغتيالات للصف القيادي الأول: على غرار ما فعلته مع حزب الله، ركزت إسرائيل على اغتيال القادة العسكريين المؤثرين في رسم سياسات إيران العسكرية، مثل قائد الحرس الثوري حسين سلامي، وقادة بارزين آخرين، حيث تُراهن إسرائيل على أن إرباك هرم القيادة يحد من القدرة على التخطيط والرد الفعال، رغم اختلاف طبيعة الدولة الإيرانية عن التنظيمات والفصائل.
رغم نجاح إسرائيل في توجيه ضربة مفاجئة لإيران، لكن تكشف المعطيات أن نتائج الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية ليست حاسمة حتى الآن، فقد استطاعت إسرائيل الاعتماد على مزيج من التفوق الاستخباراتي والتقني، وتطبيق عناصر من نماذج سابقة في سورية ولبنان لكنها واجهت تحديات على عدة مستويات:
أ- محدودية الإنجاز في تحييد القدرات النووية والصاروخية: لا تزال المنشآت النووية الإيرانية سليمة نسبياً، دون تسجيل أضرار بالغة أو تسريبات إشعاعية، أما البرنامج الصاروخي، فاستمر في العمل بفعالية، كما أظهرت الهجمات الباليستية الإيرانية التي بلغت مئات الصواريخ في ثمانية أيام، ما يشير إلى فشل الضربات في تحقيق شلل مبكر أو واسع، اذ يبدو أن إيران اتخذت إجراءات استباقية، مثل نقل الأصول العسكرية إلى مواقع محصنة أو نائية، مما حدّ من فعالية الغارات الإسرائيلية.
ب- صعوبة تحقيق اهداف الاغتيالات القيادية في ايران: بينما نجحت إسرائيل سابقاً في إضعاف حزب الله عبر اغتيال قادته، فإن تطبيق هذا النموذج على إيران يواجه عقبات، فالمؤسسة العسكرية الإيرانية تحتكم إلى نظم بيروقراطية، وتضم عشرات الجنرالات والقادة القادرين على ملئ الفراغ، فرغم مقتل قيادات بارزة، لم يُسجل انهيار أو تفكك واضح في القيادة والسيطرة الإيرانية.
ج- محدودية تكتيك الاختراق الأمني: نجاح إسرائيل في تهريب مسيرات وتوجيه ضربات من الداخل كان مكسب كبير، لكنه يصعب تكراره بسبب رفع درجة التأهب الأمني الإيراني، فإيران بدأت بتعديل منظومتها الأمنية، وتغيير مواقع التخزين، ومراقبة القنوات الداخلية، مما قلص فاعلية الهجوم الاسرائيلي بوتيرة متصاعدة.
رغم قوة البداية، فإن استراتيجية إسرائيل لا تضمن نتائج حاسمة طويلة الأمد، خاصة بعد فقدان عنصر المفاجأة، ويُرجح أن تعود إسرائيل إلى اعتمادها الأساسي على سلاحها الجوي المتقدم وتنفيذ ضربات دقيقة على أهداف جديدة.
ثانياً/ الاستراتيجية الايرانية:
تحركت الاستراتيجية الايرانية وفق عدة مسارات في الرد والمواجهة قائمة على اساس التكيف مع المعركة، اذ وجدت إيران نفسها أمام نوع من المواجهة لم تتهيأ له بشكل كافي، إذ أن استراتيجيتها التقليدية القائمة على "الحروب غير اللامتناظرة" و"الاقتراب من العدو" من خلال الأذرع الإقليمية، لا تصلح في مواجهة جوية مباشرة مع إسرائيل داخل الأراضي الإيرانية، وهذا التكيف الاستراتيجي قائم على ما يلي:
١- التخلي عن سلاح الجو كخيار دفاعي: أدركت إيران أن أسطولها الجوي المتقادم غير قادر على مجاراة طائرات F-35 وF-16 الإسرائيلية، لذلك قررت سحب معظم طائراتها إلى قواعد شرق البلاد بعيدة عن مدى الطيران الإسرائيلي، حفاظاً على ما تبقى من سلاحها الجوي.
٢- التركيز على الصواريخ الباليستية وتحييد الاهداف: فضلت إيران استخدام صواريخها الباليستية التقليدية، وتجنبت الاعتماد على المسيرات وصواريخ الكروز في البداية مستفيدة منها بشكل تدريجي، بسبب ضعفها أمام الدفاعات الجوية الإسرائيلية، واستخدمت إيران في البدء طرازات (عماد وقدر وفتح)، بينما احتفظت بصواريخها المتطورة للمرحلة الثانية مثل (خيبر شكن وخرمشهر وحاج قاسم وسجيل) لتحقيق ردع مستقبلي وليس فقط للاستخدام الفوري، لندرتها أو لحساسيتها الاستراتيجية.
وفق ذلك اظهرت إيران قدرة على امتصاص واستيعاب الضربة الأولى والتكيف مع شكل جديد من الحروب لا يتيح لها اللعب بأدواتها التقليدية، وتقوم الآن بإعادة ضبط استراتيجيتها، لتبني استجابة قائمة على الرد الصاروخي المحدود ولكن المنتظم، بهدف إطالة أمد المواجهة واستنزاف الخصم تدريجياً.
وبالإمكان تقييم اسراتيجية ايران في الرد والمواجهة وفق مايلي:
أ- الانضباط في الرد العسكري مع اقتصاد في الذخيرة وتصاعد في الفعالية
في ردها على الهجمات الإسرائيلية، لم تعتمد إيران سياسة الاستنزاف الصاروخي، بل بدا واضحاً أنها اختارت الترشيد في إطلاق صواريخها، هذه المقاربة توحي بأن طهران لا تريد الوقوع في فخ استنزاف ترسانتها بسرعة، خاصة أن المواجهة قد تطول، ورغم قلة عدد الصواريخ مقارنة بحجم الضربات، إلا أن نسبة النجاح في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية كانت أعلى من سابقتها، وتفوقت على عمليتي الوعد الصادق١ و٢، وهو ما يشير إلى تطور تدريجي في دقة الأداء وقدرة المواجهة.
ب- وعي استراتيجي بالميدان الجديد:
إيران التي بنت استراتيجيتها العسكرية على مدى عقدين حول الحروب من خلال الاذرع بالوكالة، والاقتراب من العدو، وجدت نفسها في ميدان يفتقد هذه البيئة تماماً، لهذا اتخذت خطوات تعكس إعادة تموضع تكتيكي، مثل استبعاد استخدام الطائرات المسيرة البطيئة وصواريخ كروز، نظراً لانكشافها الكبير أمام الدفاعات الجوية الإسرائيلية، مع إبقاء المواجهة في إطار الردع غير المتكافئ، من خلال التلويح بخيارات كإغلاق مضيق هرمز، وتوسيع رقعة المواجهة لتشمل حلفاء إسرائيل أو المصالح الغربية والامريكية في المنطقة، من خلال ذلك تسعى ايران إلى توسيع الضغط على إسرائيل عبر تهديد الاستقرار الإقليمي والدولي، لكنها لا تسعى بالضرورة لتوسيع المواجهة ميدانياً، بل لاستخدام هذه الأوراق لخلق ضغوط سياسية ودبلوماسية دولية تدفع بها صوب ايقاف الحرب ضدها، فرغم التصريحات الايرانية الصاخبة والتصعيدية عن استعداد إيران لحرب طويلة، لكن التحركات الميدانية والدبلوماسية تكشف رغبة واضحة في احتواء التصعيد من خلال الربط بين المفاوضات والتصعيد، اذ صرحت طهران بأنها لا ترى جدوى من العودة إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة في ظل استمرار العمليات العسكرية، لكنها مستعدة للعودة إلى الطاولة فور توقف الحرب.
ان ايران تتبع استراتيجية مزدوجة تدمج بين التصعيد المنضبط والرغبة في إنهاء الأزمة، بما يعكس وعياً ايرانياً عميقاً بأن المواجهة الجارية ليست في صالحها على المدى الطويل، خاصة مع التفوق الجوي الإسرائيلي، والوضع الاقتصادي الإيراني الصعب، وتراجع نفوذها الإقليمي، والاسناد الامريكي والاوروبي لإسرائيل، لذا هي تلجأ الى السيطرة التهديدية والتصعيد الإعلامي والعسكري المحدود، لإظهار القوة والحفاظ على الردع، مع فتح الدعوة الى التواصل الدبلوماسي والبحث عن وساطة، للخروج من الأزمة دون خسائر استراتيجية فادحة.
ثالثاً/ سيناريوهات المواجهة المحتملة:
تؤكد المؤشرات على ان المواجهة بين إيران وإسرائيل ستستمر لأسابيع قادمة، مع تأكيد الطرفين أن المراحل المقبلة ستشهد تطورات غير متوقعة، مع ذلك وعلى الصعيد الدولي، تتزايد المخاوف من أن تتسع دائرة النزاع لتشمل أطرافاً إقليمية أخرى، ما قد يهدد استقرار المنطقة ويترك آثاراً سلبية على الاقتصاد العالمي، خصوصاً في مجالات الطاقة والشحن البحري، ومن هنا، تستمر جهود الوساطة من عدة جهات دولية وإقليمية لمنع تفاقم الأزمة.
وفقاً لذلك يمكن تحديد مشاهد المواجهة حسب الآتي:
١- التوصل إلى اتفاق غير مباشر لوقف إطلاق النار:
يُحتمل أن يتم التوافق بين الطرفين بشكل غير مباشر، على وقف إطلاق النار، في إطار صفقة تشمل عودة إيران إلى طاولة المفاوضات، ليس فقط بشأن برنامجها النووي، بل ربما أيضاً برنامجها الصاروخي، هذا الطرح تدعمه الولايات المتحدة، وتبدي ايران استعداداً مبدئياً له بحسب تصريحات وزير خارجيتها، إلا أن هذا السيناريو يصطدم برفض إسرائيلي واضح، إذ ترى تل أبيب أن حملتها العسكرية بدأت تحقق نتائج ملموسة، وتفضل الاستمرار حتى إغلاق الملفين بشكل نهائي.
٢- وقف إطلاق النار دولياً:
من المرجح ان تلجأ الولايات المتحدة وروسيا والصين، إلى جانب دول إقليمية كالسعودية وقطر وسلطنة عمان، إلى الدفع باتجاه إصدار قرار أممي بوقف إطلاق النار تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويرتفع احتمال هذا السيناريو إذا تسببت الضربات الإيرانية في خسائر كبيرة لإسرائيل، ووجدت واشنطن نفسها مضطرة لتجنب التورط العسكري المباشر، غير أن هذا السيناريو يظل ضعيف الاحتمال طالما أن إسرائيل ترى أن لديها القدرة على حسم المعركة خلال فترة قصيرة.
٣- انخفاض تدريجي لوتيرة المواجهة:
من المرجح أن تنخفض حدة العمليات العسكرية تدريجياً دون الوصول إلى اتفاق رسمي، نتيجة الأعباء الاقتصادية المتزايدة على الطرفين، والقلق من ردود أفعال غير محسوبة، وقد أثبتت إيران قدرتها على مواصلة الرد وإطلاق صواريخ تجاوزت بعض منظومات الدفاع الإسرائيلية، ما يُبقي عنصر الردع قائماً، في هذا السياق، قد يتم الدخول الى مرحلة "لا حرب ولا سلام"، وانتظار التغيير في مواقف أحد الطرفين أو تغيراً سياسياً في الداخل الإيراني أو الإسرائيلي، وهذا الاحتمال قائم حالياً.
٤- استمرار المواجهة والتصعيد حتى الحسم الكامل:
يبقى هذا السيناريو الأقل احتمالاً، لكنه وارد نظرياً، إذ تصر إسرائيل على مواصلة العمليات حتى تحقيق نصر كامل، وتدمير البرنامج النووي والصاروخي الايراني الى جانب الرهان على قلب نظام الحكم في ايران من خلال استهداف شخص المرشد الاعلى، او تحقيق اختراق داخلي يشجع الاضطرابات بشكل يضغط على النظام الايراني ويدفعه الى الاستسلام والتراجع وترك الحكم، في حين تعول إيران على دعم حلفائها، روسيا والصين وباكستان، رغم صعوبة تحقق ذلك الدعم في ظل الوضع الحالي، هذا السيناريو محفوف بالمخاطر، وقد يؤدي إلى تصعيد إقليمي واسع، لكنه غير مستبعد، لا سيما إذا استخدمت إيران صواريخها ضد أطراف غير إسرائيلية كوسيلة للضغط على المجتمع الدولي لوقف التصعيد ضدها لمنع سيناريو تغيير النظام او تدمير برنامجها النووي والصاروخي.
في الواقع ان السيناريوهات التي تؤدي إلى تهدئة الصراع تبدو أكثر واقعية في المرحلة الحالية، لكنها تصطدم بعقبات واضحة، أهمها معضلة "من سيتراجع أولاً"، في ظل تمسك إيران بضرورة الخروج من المواجهة بمظهر القوي الذي استطاع ردع خصمه، ولا يُستبعد أن تلجأ ايران إلى خطوات تصعيدية ضد أهداف إقليمية أو في الممرات البحرية، ضمن استراتيجيتها التقليدية للضغط على خصومها عبر استهداف مصالحهم الحيوية، وإذا حدث ذلك، فإن الصراع قد يتخذ منحى مختلفاً أكثر خطورة، ويستدعي تدخلاً دولياً مباشراً بقيادة الولايات المتحدة أو شركائها الأوروبيين.
اضف تعليق