إن مواجهة المال السياسي ليست مهمة تقنية فحسب، بل هي مهمة سياسية–اجتماعية تتطلب إصلاحات مؤسسية وثقافية شاملة، فدون كبح هذا النفوذ، ستظل الانتخابات واجهة شكلية، وستبقى الديمقراطية هشّة، وسيظل الواقع الانتخابي أسيراً لأصحاب المال والنفوذ لا لأصحاب البرامج الوطنية...
يمثّل المال السياسي أحد أخطر التحديات التي تواجه الأنظمة الديمقراطية المعاصرة، وخاصة في الدول التي تعاني هشاشة في مؤسسات الرقابة وهيئات النزاهة، أو ضعفاً في الثقافة الانتخابية، أو انتشاراً للنفوذ الاقتصادي غير المنضبط، ويُقصد بالمال السياسي تلك الموارد المالية التي تُستخدم قبل الانتخابات أو أثناءها أو بعدها بهدف التأثير على خيارات الناخبين، أو تمويل الحملات بصورة غير مشروعة، أو شراء الأصوات، أو اختراق أحزاب وكيانات سياسية عبر الدعم المالي المشروط.
في السياق العراقي، يُعد المال السياسي عاملاً محورياً في تغيير نتائج الانتخابات، وتحديد تركيبة البرلمان، وتوجيه القرار السياسي، وينعكس ذلك على جوهر العملية الديمقراطية من حيث تكافؤ الفرص، ونقاء التنافس، وصدق تمثيل الإرادة الشعبية، ويشير المال السياسي إلى أي استخدام للأموال بهدف التأثير غير المشروع على العملية الانتخابية أو نتائجها، سواء تمّ عبر شراء أصوات الناخبين مباشرة، أو تمويل حملات انتخابية بطرق غير شفافة، أو تقديم هبات أو وعود مالية للمرشحين أو السكان، أو استخدام موارد الدولة أو النفوذ الاقتصادي لكسب تأييد سياسي.
لكن وللأمانة، ليس كل تمويل انتخابي غير قانوني، إذ إن التشريعات تسمح بتمويل الحملات ضمن سقوف وحدود وضوابط، لكنّ المال السياسي يتجاوز هذه الضوابط ليصبح أداة للهيمنة، وليس أداة للتعريف بالبرنامج الانتخابي، وهنا يكمن الخطر، في عدم تكافؤ الفرص بين المرشحين وغياب المنافسة العادلة.
تتعدد مظاهر المال السياسي في الواقع الانتخابي لتظهر على شكل شراء الأصوات والبطاقات الانتخابية، وهو أبرز صور المال السياسي حيث يُستغل الفقر والبطالة لشراء صوت الناخب بمبالغ مالية أو سلال غذائية أو وعود وظيفية، ويؤدي ذلك إلى تحويل الصوت من حقّ ديمقراطي إلى سلعة قابلة للبيع.
كذلك يكون عبر التمويل غير المعلن للحملات الانتخابية ليشمل ذلك إنفاق مرشحين أو قوى سياسية لمبالغ ضخمة خارج الرقابة، مثل إقامة مهرجانات وانتشار لافتات ضخمة، واستخدام الإعلام السياسي الموجَّه، وتمويل الدعاية عبر مؤسسات اقتصادية تابعة لجهات حزبية، وهنا غياب الشفافية يجعل الناخب عاجزاً عن معرفة مصادر تمويل المرشح وما إذا كانت مرتبطة بجهات تريد تحقيق مصالح ضيقة.
وقد يتجسد في استغلال موارد الدولة فيحدث ذلك عندما يستخدم المسؤولون سيارات الدولة، أو الموظفين، أو النفوذ في الوزارات والإدارات لغرض الدعاية الانتخابية أو الضغط على الناخبين، وهذا النوع أخطر من الأموال الخاصة لأنه يحوّل الدولة ذاتها إلى فاعل انتخابي.
كما وتتجسد التأثيرات السياسية للمال السياسي على الواقع الانتخابي في تشويه الإرادة الشعبية لأنه عندما يُشترى صوت الناخب أو يُخدع بالدعاية الممولة، لا تكون النتيجة انعكاساً لإرادته بل لإرادة من دفع، وهذا يُفرغ الانتخابات من مضمونها ويحوّل العملية الانتخابية إلى معادلة مالية لا سياسية، كما أنه يتجسد في إنتاج برلمان غير ممثِّل، لان المرشح الذي يصل عبر المال السياسي عادة لا يمتلك قاعدة جماهيرية حقيقية، ويخضع لضغوط داعميه، ويتعامل مع المنصب كمشروع استثماري لاستعادة ما أنفقه.
وفي المحصلة، يصبح البرلمان عبارة عن مجموعة من المستثمرين السياسيين لا ممثلي الشعب.
كما ويؤثر المال السياسي على إضعاف الأحزاب الديمقراطية والكفاءات، فالأحزاب التي تعتمد على برامج سياسية قد لا تتمكن من منافسة قوى مالية ضخمة، والكفاءات المستقلة فغالباً تخرج من السباق لصالح أصحاب المال والنفوذ، مما يؤدي إلى هجرة الكفاءات، وضعف جودة التشريع، وتراجع الأداء الرقابي، وتعزيز الفساد السياسي لان المال السياسي يولّد شبكة مصالح مالية تشريعية معقّدة، فالمرشح الذي أنفق أموالاً ضخمة للوصول إلى المنصب يسعى إلى تعويض خسائره من خلال المناصب، منح العقود للمموّلين، تكريس الفساد داخل المؤسسات.
أما الآثار الاجتماعية والاقتصادية للمال السياسي فهي في تطبيع الفساد في الوعي الجمعي حين يصبح بيع الصوت أو قبول الرشوة الانتخابية أمراً معتاداً، يتحول الفساد إلى ثقافة، ويصبح الناخب يرى صوته فرصة اقتصادية لا حاجة سياسية، كذلك في تعميق الفجوة الطبقية لان المال السياسي يتيح للأثرياء الوصول للسلطة بسهولة، بينما يُقصي الفقراء عنها، مما يخلق نخبة مالية حاكمة، وهذه الدينامية المقيتة تعزز احتكار السلطة والثروة.
ولها تأثير سلبي في إضعاف المجتمع المدني، لان المنظمات المدنية تُهمّش عندما تهيمن القوى المالية على المشهد السياسي، إذ تضعف قدرتها على الرقابة والتوعية.
بالمقابل يمكننا طرح بعض المقترحات الإصلاحية التي نراها مناسبة للحد من تأثير المال السياسي، مثل تشديد العقوبات القانونية على شراء الأصوات وتمويل الحملات بطرق غير مشروعة، واعتماد منظومة شفافة للإفصاح المالي للمرشحين والأحزاب قبل وبعد الانتخابات، وتحديد سقوف مالية صارمة وفرض رقابة إلكترونية فورية على الإنفاق الانتخابي، وحظر استعمال موارد الدولة لأغراض انتخابية وفرض عقوبات مضاعفة، وتمويل الدولة للحملات بنحو متوازن يقلل الاعتماد على المال الخاص، كذلك عبر دعم الإعلام المستقل لمواجهة تأثير الدعاية الممولة، وتعزيز دور المجتمع المدني في مراقبة الحملات والإنفاق، وإصلاح النظام الانتخابي بما يعزز فرص المستقلين ويحد من نفوذ المال السياسي المقيت.
ختامًا- إن المال السياسي يُعدّ عاملاً خطيراً يُعيد تشكيل الخريطة الانتخابية في الدول التي تعاني ضعفاً في مؤسسات الرقابة وارتفاعاً في معدلات الفقر والفساد، فبدلاً من أن يكون التصويت تعبيراً عن الإرادة الحرة، يتحول إلى نتيجة مباشرة لقوة المال وتأثير النفوذ الاقتصادي، وهذا التشويه لا ينعكس فقط على نتائج الانتخابات، بل يمتد ليُضعف الشرعية السياسية، ويقوّض الثقة العامة، ويؤسس لدورة مستمرة من الفساد واحتكار السلطة.
إن مواجهة المال السياسي ليست مهمة تقنية فحسب، بل هي مهمة سياسية–اجتماعية تتطلب إصلاحات مؤسسية وثقافية شاملة، فدون كبح هذا النفوذ، ستظل الانتخابات واجهة شكلية، وستبقى الديمقراطية هشّة، وسيظل الواقع الانتخابي أسيراً لأصحاب المال والنفوذ لا لأصحاب البرامج الوطنية.



اضف تعليق