إذا كانت الدولة الحديثة تُقاس بجودة خدماتها واحترامها للمواطن، فإن العراق رغم كل إمكانياته البشرية والإدارية، ما يزال يُعاني من أزمة عميقة في ثقافة التعامل داخل دوائره، فتعالي الموظف ليس مجرد سلوك شخصي، بل شخيص دقيق لمرض مؤسسي يحتاج إلى علاج فوري وحاسم...

رغم المبالغات في إطلاق الشعارات الحكومية والتي تؤكد جميعها على خدمة المواطن وتذليل الصعوبات امامه عند المراجعة للدوائر الرسمية، لكن يبقى ثمة إشكالية لم تعالج لغاية اللحظة وهي تعالي الموظف على المراجع والتعامل بفوقية واضحة وكأن المراجع يستعطي من الموظف وليس صاحب حاجة وعلى الموظف إكمالها.

من يتردد على الدوائر الحكومية يكتشف ان الواقع يختلف تماما عن النظرة التي تحاول الحكومة إشاعتها والترويج لها عبر وسائل الإعلام، فالصورة مغايرة حيث يواجه المواطن في كثير من الأحيان موظفين يتعاملون معهم بتعالٍ، أو تجاهل متعمد، أو حتى إهانة صريحة.

وقد لا يمر يوم دون تعرض مواطن مراجع الى هذا النوع من التعامل الغليظ، وكأنه مكتوب عليه الذلة عندما يتوجب عليه المراجعة لأحدى المؤسسات، فالإهانة تأتي عندما يجيب الموظف بعبارة "هذا الموضوع مو يمنا شوف الغرفة البصفنه" بحيث تتحول هذه العبارة في معظم الدوائر الى إجابة آلية تم تلقينها للموظفين.

وقد تكون هذه الإجابة وعينيه (الموظف)، مركزة في الهاتف او الحاسبة دون النظر الى وجه المراجع والتأكد من المقصود، وربما يكون المراجع مخطأ في السؤال بالأساس ويقع على الموظف إرشاده الى الوجهة الصحيحة، ومن العبارات الاسهل على نفس الموظف هي "المدير ما موجود تعال باجر"، هذه العبارات لا تعبر فقط عن قصور في الخدمة، بل تكشف عن ثقافة متجذرة في بعض مؤسسات الدولة، تقوم على التسلط الإداري والاستهانة بحقوق الناس.

تكثر روايات المراجعين بخصوص التعالي الوظيفي، حيث يقول بعضهم انه انتظر لساعات لمجرد استفسار بسيط، وحين الحصول على الإجابة لا يهم الموظف شرح ولو سبب من الأسباب التي دعت لاتخاذ هذا الاجراء، وتبقى الكثير من الأسئلة معلقة في ذهن المراجع حرمه من معرفة اجابتها تعالي الموظف لا غير.

ولان لكل ظاهرة جذورها الممتدة على عشرات السنين، فأن السبب الرئيس في التعامل مع المراجع بهذه الطريقة يعود الى اطمئنان الموظف من عدم المراقبة او المحاسبة على أي تقصير في أداء واجباته، ولهذا يبقى الموظف يعمل وفق اهواءه ورغبته بعيدا عن حاجة المراجع.

وفي الوقت نفسه لا توجد أي طريقة او معيار للتقييم الدوري للموظفين، وهو الامر الذي يجعلهم غير آبهين بجميع التعليمات والتوجيهات الصادرة من الجهات العليا، التي تشدد على الالتزام ومحاسبة المقصرين، وأيضا لا توجد شفافية لعملية مراقبة أداء الموظف الحكومي.

وفي بعض الأحيان لا يتصرف الموظف بهذه الطريقة بصورة متعمدة، بل يأتي ذلك من قلة الخبرة او التأهيل المهني، فكثيرا ما تُزج آلاف الموظفين في المؤسسات الحكومية، دون اشراكهم في دورات او ورش عمل متخصصة في التواصل الإنساني أو الأخلاقيات المهنية.

ويؤثر أيضا الضغط الإداري ونقص الكوادر العاملة في بعض الأحيان على نوع الإجابة والتعامل مع المراجعين، وهنا الخلل تتحمله الإدارة العامة، التي لم توزع الموظفين بالشكل الذي يضمن انسيابية في العمل ومرونة في المعاملة مع المراجعين، فكلما قل الضغط على الموظف، كلما ضمنا جودة في الخدمات.

ومن تداعيات هذا اللون من التعامل هو فقدان الثقة بمكانة المؤسسات الحكومية، وبناء حاجز يعزل المواطنين عن تلك المؤسسات، حتى يتجنب المواطن المراجعة الا عند الضرورة القصوى، بعد ان تولد لديه الملل والانزعاج عند كل مراجعة.

ومن الحلول الممكنة لهذه الحالة هو فعيل نظام تقييم الموظف من قبل المواطنين، مثل بطاقات رأي أو تطبيقات الكترونية، فضلا عن ربط الترقيات والحوافز برضى المراجعين وسلوك الموظف، وليس فقط بعدد المعاملات، وأخيرا إدراج أخلاقيات الخدمة في الدورات التدريبية الإلزامية لجميع الموظفين.

إذا كانت الدولة الحديثة تُقاس بجودة خدماتها واحترامها للمواطن، فإن العراق رغم كل إمكانياته البشرية والإدارية، ما يزال يُعاني من أزمة عميقة في ثقافة التعامل داخل دوائره، فتعالي الموظف ليس مجرد سلوك شخصي، بل شخيص دقيق لمرض مؤسسي يحتاج إلى علاج فوري وحاسم.

اضف تعليق