اليوم، إذ نعيد قراءة تلك التجارب بوعي مختلف، ندرك أن المآسي التي حصلت كان بالإمكان تفاديها. فالرغبة في التغيير نحو الأفضل، إن تمت بحماسة لا تراعي الواقع الموضوعي وتوازنات القوى، محليا ودوليا، ستؤدي بالضرورة إلى صناعة حماسة مضادة، ما يفضي إلى اصطدام يُطيح بحلم التغيير ويستفرخ كوارث أخرى...

من الأحداث التي قرأناها وأصبحت جزءًا من ثقافتنا السياسية التقليدية، دون أن نتفحصها جيدًا، هي أحداث تشيلي، مطلع سبعينيات القرن الماضي. ولعلها اليوم باتت درسًا يستحق إعادة قراءته بموضوعية، لأننا تلقيناه بمدخلاته ومخرجاته المأساوية من خلال الإعلام والثقافة (اليسارية) وقتذاك، كونه وقع خلال الحرب الباردة، وفي مرحلة كنا فيها منحازين للمعسكر الاشتراكي.

وصل سلفادور أليندي إلى السلطة عام 1970 عبر انتخابات ديمقراطية بعد فوز تحالف (الوحدة الشعبية)، الذي ضم إضافة إلى حزبه (الحزب الاشتراكي التشيلي)، الحزب الشيوعي وأحزاب يسارية أخرى. 

وقد كشفت نتائج الانتخابات عن انقسام شعبي واضح، إذ حصل أليندي، مرشح التحالف، على 36.6% من الأصوات، في حين حصل المرشح المحافظ خورخي اليساندري على 34.9%، وجاء المرشح الوسطي رادوميرو تومي ثالثًا بـ 27.8%. ما يعني أن أليندي وتحالفه لم يمتلكوا الأغلبية الكاسحة في الشارع أو البرلمان، لكنه مدفوع برغبته في تحقيق تغييرات لصالح الطبقة العاملة، قام بإجراءات ذات طابع اشتراكي، مثل تأميم الصناعات الرئيسية. 

هذه السياسات أثارت مخاوف الولايات المتحدة الامريكية والدول الرأسمالية خارجيًا، واصطدمت بقوى محلية مؤثرة رافضة داخليًا، فأدى الضغط الخارجي المدعوم محليًا إلى نتائج معاكسة لتطلعات أليندي وحلفائه، وللشعب أيضًا. 

تشير المعلومات إلى أن التضخم ارتفع إلى 600%، وانزلقت البلاد إلى انقسامات حادة واضطرابات دفعت الرئيس أليندي إلى تعيين (الجنرال بينوشيه) على رأس المؤسسة العسكرية لكسب ولائها وضبط الشارع. 

لكن الأمور خرجت عن السيطرة، وربما بدفع من الولايات المتحدة أو القوى المحلية النافذة، أقدم بينوشيه على الانقلاب الدموي عام 1973، وما تبعه من إجراءات قمعية ضد قوى اليسار، في مشهد مشابه لما حدث في اندونيسيا عام 1965 بعد قيام (المقدم أونتونغ شمسوري) المقرّب من سوكارنو الاشتراكي، بمحاولة (تطهير) داخل المؤسسة العسكرية، المعروفة بميولها الغربية. وقد أدت هذه المحاولة لاحقًا إلى الإطاحة بسوكارنو نفسه وحصلت مجازر رهيبة نفذها الجيش ضد قوى اليسار هناك.

اليوم، إذ نعيد قراءة تلك التجارب بوعي مختلف، ندرك أن المآسي التي حصلت كان بالإمكان تفاديها. فالرغبة في التغيير نحو الأفضل، إن تمت بحماسة لا تراعي الواقع الموضوعي وتوازنات القوى، محليا ودوليا، ستؤدي بالضرورة إلى صناعة حماسة مضادة، ما يفضي إلى اصطدام يُطيح بحلم التغيير ويستفرخ كوارث أخرى. 

حينها، يلجأ الناس إلى البحث عن أي وسيلة لإعادة الاستقرار، وهو ما حصل في تشيلي. فمن نتائج انقلاب بينوشيه، رغم القمع الذي رافقه ضد قوى اليسار، استقرار البلاد وتحسن الوضع الاقتصادي لاحقا، بعد ان وجدت تشيلي نفسها ككرة تتقاذفها القوى الكبرى وهي لا تمتلك مقومات مواجهة كافية، اقتصاديا وسياسيا، بسبب الانقسامات الحادة، التي احدثتها محاولة تغيير فلسفة الدولة بطريقة راديكالية، واصبحت المعادلة صفرية، أي لابد من هزيمة أحد الطرفين.

نحن اليوم، إذ نقرأ هذه الأحداث من جديد، علينا أن نتعلم منها دروسًا في الواقعية السياسية، ونتجنب تكرارها في بلداننا عبر احترام الخيارات المختلفة للناس والعمل تحت سقف القانون وبناء المؤسسات الضامنة لأمن البلاد واستقرارها، بعيدًا عن المشاريع غير الواقعية، التي مهما كانت النيات التي وراءها سليمة، فإنها قد تتحول إلى مداخل للخراب بأشكال مختلف، ولعلنا اليوم نشهد نتائج المشاريع غير الواقعية وما تسببت به من كوارث لمنطقتنا وشعوبها.

اضف تعليق