ترامب جاء بفكر مغاير للفكر الأميركي التقليدي: لا يريد تدخلات مكلفة ولا إنفاقاً على نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان كما في السابق، بل يعتمد على «المقايضة الاستراتيجية» لتحقيق أهداف بلاده: أمن مقابل مال، سلام مقابل مصالح اقتصادية، وتفوق علمي وتكنولوجي مقابل اعتراف مشروط بأفضلية أميركية...

منذ انطلاق دبلوماسية القمم العربية عام 1964، عقدت عشرات القمم، بين عادية واستثنائية، وكان لقضية فلسطين والصراع العربي ـ الإسرائيلي نصيب الأسد في جداول أعمالها. وبعد ستة عقود، تعود القمة لتعقد في بغداد، بينما ما زالت قضية الشعب الفلسطيني تضغط على وجدان الجماهير العربية، إذ يقتل العشرات يومياً منذ أكثر من ثمانية عشر شهراً، وتجاوز عدد الضحايا خمسين ألفاً فيما جُرح أكثر من ضعفهم، وغُيِّبت غزة عن وجه الأرض دون أن تنجح محاولات العرب والمسلمين وأصدقائهم في كبح العدوان الإسرائيلي أو الحد من سياساته القائمة على الإبادة والتدمير.

سيكون الملف الفلسطيني حاضراً بقوة على طاولة القمة، ولكن سقف الطموحات انخفض إلى مجرد محاولة منع التهجير الجماعي لأهالي غزة، والسعي لوقف الحرب، وإقناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإمكانية إعادة إعمار القطاع دون إخراج سكانه منه أو وضعه تحت إدارة أميركية مباشرة.

ترامب، الذي لا يكفّ عن طرح أفكار “خارجة عن الصندوق”، سبق وأن اقترح أن تتملك الولايات المتحدة قطاع غزة وتحوله إلى “ريفيرا شرق أوسطية” تجذب الأثرياء ومحبي الاستجمام، بينما كانت أطراف في اليمين الإسرائيلي تدفع باتجاه تهجير طوعي للفلسطينيين، وإخضاع القطاع لإدارة عسكرية إسرائيلية مباشرة.

وقبيل انعقاد القمة، يقوم ترامب بجولة خليجية تشمل السعودية وقطر والإمارات، بينما امتنع عن زيارة إسرائيل حالياً، ربما لرغبته في ترك مسافة بين أجندته وتطلعات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يسعى لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من منظور استراتيجي عدواني، يقوم على استباق التهديدات وفرض مسارات تفاوض وتطبيع بالقوة، وإلا فالعقاب يكون بالتدمير والتخريب وإفشال مشاريع الاستقرار.

في ظل هذا المشهد، وجدت دمشق ـ التي تقودها حكومة أحمد الشرع ذات الطابع الإسلاموي ـ نفسها مجبرة على الدخول في مفاوضات مع الكيان الإسرائيلي، تحت ضغط الهجمات اليومية وتنافس المشاريع الإقليمية، خاصة التركي والصهيوني. وتلعب الإمارات هنا دور الوسيط، بعدما غابت دول عربية تقليدية كانت تجيد لعب هذا الدور، كمصر.

في المقابل، يعاني لبنان من أزمات مركبة تعوق إعادة الإعمار وعودة الاستقرار، في ظل ضغوط إسرائيلية سياسية وعسكرية، ومساعٍ لإخراج حزب الله من المعادلة الأمنية، ونزع سلاحه بالكامل، لا في جنوب الليطاني فقط، بل على امتداد الأراضي اللبنانية.

أما العرب، فهم يجتمعون في بغداد بينما العمل العربي المشترك في أضعف حالاته، من حيث التأثير والفاعلية. فما الذي يمكن للقمة أن تفعله في ظل واقع تآكل فيه مفهوم الأمن القومي العربي، وحلّ محله منطق السيادة المنفردة واعتبارات المصلحة القُطرية؟.

لم تعد هناك رهانات واقعية على موقف عربي جماعي قادر على تعديل موازين القوى، إذ تراجعت الرؤية القومية، وتآكلت مؤسساتها. ومع ذلك، لا يزال من الممكن الاشتغال على قواسم مشتركة، عبر جدولة المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية، وبما يتناسب مع وزن كل دولة، لتشكيل أرضية تفاهم عربية تدريجية، على غرار ما فعلته دول الاتحاد الأوروبي.

نجاح هذا المسار يقتضي التفكير بمنظور تكاملي لا فردي، والتهيؤ لعمل طويل الأمد قد يستغرق سنوات، ريثما تنضج الرؤى وتتقارب السياسات. كما أن دبلوماسية القمم مدعوة لتجاوز ترهّل الجامعة العربية ومؤسساتها المتآكلة، فالمطلوب اليوم ليس مجرد تكرار الشعارات، بل مراجعة شاملة لطبيعة العمل العربي المشترك، وإعادة صياغة آليات التفكير والعمل على ضوء التحديات الجديدة.

يمكن لوزارة الخارجية العراقية أن تقدم رؤية نقدية واقعية لواقع العمل العربي في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وتقارنه بما تحقق منذ تأسيس الجامعة، تمهيداً لطرح مبادرة لإعادة هيكلة العمل العربي المشترك، تحت مسمى اعلان بغداد، لأن ما كان يصلح قبل عقود لم يعد كافياً اليوم.

أما زيارة ترامب المرتقبة، والتي تعتبر الأولى خارجياً له في ولايته الثانية، فتشير بوضوح إلى أولوياته: الاقتصاد، المال، الاستثمار، والهندسة السياسية للمنطقة. لم تعد أميركا تريد أن تدفع لتقود، بل تسعى لمعادلة جديدة: التحالف مقابل المال، والأمن مقابل الإنفاق من قبل الحلفاء، لا من خزينة واشنطن.

ترامب جاء بفكر مغاير للفكر الأميركي التقليدي: لا يريد تدخلات مكلفة ولا إنفاقاً على نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان كما في السابق، بل يعتمد على «المقايضة الاستراتيجية» لتحقيق أهداف بلاده: أمن مقابل مال، سلام مقابل مصالح اقتصادية، وتفوق علمي وتكنولوجي مقابل اعتراف مشروط بأفضلية أميركية.

وهذا ما بدأ يتقبله الكثيرون في العالم ومن بينهم قادة في منطقتنا الموبوءة والمتخمة بالأزمات والاشكاليات المجتمعية والامنية والسياسية.

قمة بغداد قد تكون مفصلية، إذا ما تمكنت من إطلاق شرارة تفكير عربي جديد يستجيب لمتغيرات العالم ويتكيّف معها بواقعية، لا بردود أفعال غاضبة أو شعارات مستهلكة.

اضف تعليق