إن السؤال الحاسم اليوم لم يعد يتعلق بالشخصية الأقرب إلى رئاسة الحكومة، بل بالنموذج القيادي الذي يحتاجه العراق في لحظة تتداخل فيها الأزمات الداخلية مع الضغوط الإقليمية والدولية. فالقادم إلى رئاسة الوزراء لن يكون مجرد رئيس جديد، بل مديرًا لمرحلة انتقالية قد تحدد شكل الدولة ومسارها لسنوات طويلة مقبلة...

على الرغم من حالة التردد التي تبديها شخصيات عديدة تُطرح أسماؤها لرئاسة الحكومة العراقية المقبلةـ بسبب إدراكها حجم التحديات المركبة ومناطق الخطر التي تنتظر أي رئيس وزراء جديد ـ إلا أن دائرة الطامحين والمستعدين لدخول سباق الترشيح داخل الإطار التنسيقي آخذة بالاتساع. فالمعلومات المتداولة في الأوساط المطلعة تشير إلى أن ما بين عشرين إلى سبعٍ وعشرين شخصية تلقّت أسئلة اللجنة المكلفة بفرز الترشيحات. بعضهم سارع إلى الإجابة بوصف ذلك مؤشرًا على دخوله الحلبة الفعلية، بينما اكتفى آخرون بضجيج الإعلام الذي وضع أسماءهم على لائحة المرشحين، وكأن مجرد ورود الاسم خطوة أولى في طريق طويل للوصول إلى الموقع الأكثر حساسية في بنية السلطة العراقية.

غير أن ما لم يُناقش بجدية وشجاعة حتى الآن هو سبب هذا الإقبال الكبير على منصب يمثل أعلى درجات المخاطرة السياسية. ما الذي يدفع كل هذا العدد إلى التنافس على موقع يدرك الجميع أنه مشبع بالأزمات، وأنه بات أقرب إلى كرسي لإدارة الانهيارات المحتملة لا لتوزيع المكاسب؟ هذا السؤال يتكرر بلا إجابة واضحة في النقاشات الدائرة اليوم. فطاولة الإطار التنسيقي تضم ما لا يقل عن اثني عشر عضوًا مؤثرًا، ومعظمهم يرى نفسه مؤهلًا لترشيح شخصية مناسبة وفق معاييره الشخصية أو الحزبية أو الفئوية. وهنا تكمن الإشكالية: كيف تُحسم معادلة الحكم في العراق بطريقة تجعل زعامة الحكومة ناتجة عن قرار محسوب، لا مجرد صدفة أو تسوية طارئة تقذف باسم ما في الفراغ السياسي؟

فالخيارات المطروحة حتى الآن تبدو إما جدلية أو ضعيفة الجدوى، ما يجعل خطر تغليب المصالح الخاصة والفئوية قائمًا بقوة على حساب المصلحة الوطنية التي تدفع ثمن الصراع المستمر على السلطة منذ سنوات. والحقيقة التي يعرفها الجميع ويتجنب البعض الاعتراف بها هي أن منصب رئيس الحكومة لا يخضع لمعايير مهنية أو كفاءة إدارية أو سجل قيادي، بل يخضع لتفاعل معقد بين مناورات الكتل، وحسابات الزعامات، ومتطلبات الفاعلين الخارجيين الذين أصبح حضورهم عاملًا حاكمًا في اختيار الزعيم التنفيذي للبلاد.

فالمعادلة ليست عراقية خالصة؛ طهران تنشط في تقديم أسماء تراها مقبولة وفق أولوياتها في مرحلة ما بعد الانتخابات، بينما تبعث واشنطن رسائل واضحة بأنها لن تتعامل مع حكومة يهيمن عليها مناوئوها. وقد ازدادت لهجة واشنطن حدّة بعد حادث استهداف حقل كورمور والتهديدات التي أطلقها مبعوث الرئيس ترامب مارك سفايا، الذي أكد أن الولايات المتحدة ستطارد الجماعات المسؤولة ومن يدعمها، في رسالة تعكس حجم التشدد الأميركي في هذه المرحلة. وهكذا تتعامل واشنطن مع بغداد بعين مراقبة وحذرة، فيما تنظر طهران إلى الانتخابات بوصفها دليلًا على استمرار وزن حلفائها داخل البرلمان، الأمر الذي يعيد إنتاج المعضلة المعروفة في الحالة اللبنانية، حيث يصبح الداخل رهينة صراع إقليمي ـ دولي لا يسمح بقيادة حكومية هادئة أو مستقرة.

والبرلمان المقبل يعكس بصورة أكثر حدة التناقض البنيوي بين رؤيتين متضادتين: رؤية تدعو إلى تحرير القرار السياسي من الأيديولوجيات والتركيز على الأمن والاقتصاد وعلاقات متوازنة، ورؤية موازية ترى أن مهمتها التاريخية هي التصدي للمشروع الأميركي في المنطقة. وكلتاهما ترفع شعار المصلحة والسيادة العراقية وتمتلكان تمثيلًا شعبيًا لا يمكن تجاهله، ما يعني أن صراع الرؤيتين سينتقل بالضرورة إلى جسد الحكومة المقبلة، لتظهر ساحات هذا الصراع في الاقتصاد والطاقة والمقاولات والاستثمار والسياسة الخارجية، ضمن بيئة إقليمية مضطربة وصراع محاور مزمن.

وتشير كل المؤشرات المالية والاستراتيجية إلى أن الحكومة المقبلة ستكون حكومة إدارة أزمات بامتياز. فاحتمال تهدئة الحرب الأوكرانية قد يفضي إلى هبوط أسعار النفط عالميًا، وعجز الموازنة مرشح للارتفاع مع تضخم الدين الداخلي، بينما يتواصل الضغط الشعبي في ظل فرص عمل شحيحة. كما أن حاجة البلاد لاستثمارات خارجية لن تتحقق دون بيئة آمنة ومطمئنة للمستثمرين، وهو ما يستلزم حكومة مقبولة خارجياً وفعالة داخلياً وحازمة وشفافة، قادرة على ضمان شرعية إجراءاتها الاقتصادية التي ستكون مؤلمة على الأرجح.

وبعد الأزمة المالية مباشرة ستبرز قضية السلاح الفصائلي كأحد أكبر التحديات أمام الحكومة المقبلة، وهي قضية ترتبط بتعقيدات الملف النووي الإيراني وترتيبات الشرق الأوسط الجديد. فالعراق لن يستطيع تثبيت استقراره داخليًا ما لم يُحسم هذا الملف، ولا يمكنه حماية نفسه خارجيًا ما لم يمتلك تحالفات قوية تدعم سيادته وتمنع تحويله إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، ما يجعل الحاجة إلى تفكير سياسي غير نمطي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

وفي المحصلة، فإن السؤال الحاسم اليوم لم يعد يتعلق بالشخصية الأقرب إلى رئاسة الحكومة، بل بالنموذج القيادي الذي يحتاجه العراق في لحظة تتداخل فيها الأزمات الداخلية مع الضغوط الإقليمية والدولية. فالقادم إلى رئاسة الوزراء لن يكون مجرد رئيس جديد، بل مديرًا لمرحلة انتقالية قد تحدد شكل الدولة ومسارها لسنوات طويلة مقبلة.

اضف تعليق