قامت بقراءة بعض الأدعية، ورفعت كفيْها إلى السماء وتمتمت بكلمات لا يسمعها إلا الله، وبعد أن انتهت من زيارة مرقد الحسين، دفعت ابنة اختها الكرسي نحو باب الخروج، ومن ثم توجّه الجميع نحو مرقد العباس، كان الكرسي يسير بهدوء كأنه يعرف طريقه إلى المرقد المضيء، وكانت زوجتي غارقة في صمتها وهدوئها...
قد يجهل الكثير من الناس التأثير الفاعل والقوي للجانب الروحاني في حياة الإنسان، وهناك من يعتقد بأن الدرجة العلمية أو الشهادة العليا التي حصل عليها، أو الثقافة العالية التي جمعها من مصادر الكتب والثقافات المختلفة، تجعله في منأى عن الحاجة إلى الجانب الروحي، ولكن تم إثبات العكس تماما.
فكلما يتعمّق الإنسان في العلوم المختلفة، وكلما تتسع دائرة وعيه في مختلف المجالات، ينبغي أن يكون أكثر تبصرا وفهما للقدرات الغيبية ودورها في حياة البشر والكون أيضا.
ولكن ماذا عن الناس البسطاء وكيف يمكنهم تنمية الجانب الروحي لديهم، ولماذا غالبا يكون الناس البسطاء أكثر تمسكا من سواهم بالقضايا الغيبية، والأمور الروحية التي تنمّي لديهم الإيمان والتسليم التام للعنصر الروحي الإيماني الذي يشترك بقوة في تنظيم حياتهم سواء الدينية منها أو حتى الاجتماعية والسلوكية وما شابه؟
إن الإنسان بات يدرك بطبيعته وبفطرته، رغم ما قطعته الحضارة الغربية أو سواها، من أشواط هائلة في المنجزات التكنولوجية وغيرها، إلا ان الإنسان لا يزال متعلقا بالجانب الروحي والغيبي، ولا يزال ينظر ويشعر أيضا بأن الجانب الروحاني يشكل نصف كينونته، وأن حياته لا تكتمل بالعناصر المادية الواقعية وحدها، وإنما هناك روح تشارك الجسد في إدامة هذه الحياة وفي إدارتها أيضا.
فمثلما يمرض الجسد، ويهرع الإنسان إلى الطبيب لكي يستأصل جزءا تالفا من جسده، كما يحدث في العمليات الجراحية بمختلف درجاتها الكبرى والوسطى والصغرى، فإن الروح أيضا تمرض عندما تتعرض للإهمال وعدم المعالجة، كأن يهمل الإنسان تغذيتها بالأدوات والمضامين الروحية المعروفة وكل بحسب ديانته.
يسعى الناس البسطاء إلى الموازنة بين ما هو مادي وما هو روحي، والناس هنا تختلف بحسب أوضاعها النفسية، وبحسب درجة الإدراك والقناعات، وينطبق هذا على أصحاب العقول المطلعة على العلوم والآداب والثقافات والديانات المختلفة، فهؤلاء بعضهم تأخذه موجة الغرور ويعتقد بأن ما وصل إليه من درجة اطلاع تغنيه عن اللجوء إلى ترميم الجانب الروحاني، وهناك من يعيش الحالة الوسط.
لكن يمكن أن نعثر أيضا على الإنسان الذي يجمع بين الجانبين المادي والروحي في بناء شخصيته، ويوجد أناس من هذا النوع لديهم درجة من التوازن الكبير بين ما هو روحاني ومادي واقعي، وهؤلاء هم أصحاب العقول المتوازنة التي تدرك جيدا أنه تحتاج الطرفين المادي والروحي، ولا يمكن للإنسان أن يحيى حياة هانئة وسطية مالم يكن مدركا وساعيا إلى هذه الوسطية بين الروحي والمادي.
أما الناس البسطاء، فهؤلاء في الحقيقة وكما يشعرون هم أنفسهم أكثر من غيرهم، بأنهم أحباب الله، وأنهم الأقرب إليه، كما أنهم متمسكون بالشفعاء إلى درجة كبيرة جدا، فهناك تمسك للناس البسطاء بأولياء الله الصالحين، يتمسكون بهم، ويزورونهم باستمرار، ويطلبون منهم الشافعة عن الله في حاجات كثيرة روحية وجسدية وحتى في قضية الرزق وما شابه.
الناس البسطاء يزورون مراقد أولياء الله الصالحين، وحين يصلون إلى الضريح الشريف، يمسكون به، ويستشفعون ويرفعون الأكف متضرّعين إلى الله، ثم يشرعون بطلب حاجاتهم، وذلك بصوت غير مسموع، وبكلمات كأنها سرية، فتبقى هذه الحاجة أو تلك حبيسة الصدور إلى أن يحققها الله تعالى، هذا الجانب الروحي موجود بالفعل في حياتنا.
مثال عن ذلك ما نقلتهُ لي أم أولادي حين ذهبت في زيارة إلى الإمام الحسين عليه السلام، جلست زوجتي على مقعدها المتحرك، وبدأت ابنة أختها تدفع بها باتجاه مركز المدينة، إلى مرقد الإمام الحسين وكان برفقتها ابنتها وأطفالها أيضا، دخلت زوجتي وهي على الكرسي إلى مرقد الإمام، ثم وصلت إلى الضريح، ومدَّت يديها نحو الشبّاك وطلبت من الإمام (هدية)، ولم تطلب شيئا محدَّدا، لم تتطرق لصحتها أو الشفاء من مرضها وإنما تركت الإمام هو الذي يحدّد الهدية، لم تكن حزينة ولا يائسة بل مستبشرة بالخير...
قامت بقراءة بعض الأدعية، ورفعت كفيْها إلى السماء وتمتمت بكلمات لا يسمعها إلا الله، وبعد أن انتهت من زيارة مرقد الحسين، دفعت ابنة اختها الكرسي نحو باب الخروج، ومن ثم توجّه الجميع نحو مرقد العباس، كان الكرسي يسير بهدوء كأنه يعرف طريقه إلى المرقد المضيء، وكانت زوجتي غارقة في صمتها وهدوئها...
دخلوا جميعا (زوجتي وابنة اختها وابنتها ومعهم الأطفال الصغار) إلى مرقد العباس ثم إلى الضريح المعطّر بأجواء الأمان والرحمة، وبعد الانتهاء من الزيارة خرج الجميع من المرقد إلى السوق.
توقّفت زوجتي جانبا ومعها ابنة اختها، وذهب الباقون للتسوق، في هذه اللحظات الغارقة بالرحمة وأجواء الأمان، كانت زوجتي تتطلع في عيون الناس، تعيش حالة من الاستقرار والهدوء العميق.. وفي لحظة أقبلت امرأة بشخصية متميزة عن النساء الأخريات، وقدمّت لزوجتي (كيسا ورقيا أبيض اللون) وقالت لها بالحرف الواحد (هذه هدية لك من الحسين)، وضعت الكيس الأبيض في يد زوجتي وذهبت...
وحين فتحت زوجتي الكيس وجدت في داخله كتاب الله (القرآن) بغلاف أبيض ومعه وردة طبيعية لونها أبيض أيضا، ويفوح منها عطر لا يشبه عطور الأرض.
مع قصاصة ورق لونها وردي مكتوب فيها:
اسم الله قادر على أن يلمّع جميع خراب قلوبكم.... فاطمئنوا.
اضف تعليق