إحلال السلام واستقرار الشرق الأوسط وخفض التصعيد فيه، أصبح ضرورة ملحة للعالم، ولاسيما للدول المتصارعة ودول المنطقة أجمع؛ فهناك ملفات أخرى أكثر أهمية يجب التصدي لها، تتعلق بمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والبيئية للسنوات القادمة، ولاسيما تلك التي تتعلق بالتغير المناخي والاحتباس الحراري، الذي يهدد المنطقة برمتها...

لا يخفى عن الجميع أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لكل دول العالم، ولاسيما الاقطاب الماسكة بالنظام العالمي، أو تلك التي تتشارك بفرضيات إحلال السلام والصراع في المنطقة، ولعل ما تشهده المنطقة في الفترة الأخيرة من نشاط سياسي ودور دولي وإقليمي لإحلال السلام بدل الصراع والاستقرار بدل عدم الاستقرار، أخذ يشكل اهتمامًا سياسيًا كبيرًا على المستوى المنطقة والعالم.

سواء تلك التحركات التي شهدتها المنطقة على المستوى الدبلوماسي وما يتعلق بها من خفض التصعيد والتطبيع مع بداية اتفاقات إبراهام بين إسرائيل وبعض الدولة العربية، أو المساعي التي لاقتها دول الخليج (قطر والسعودية) في إنهاء الازمة بينهما، التي ادت بدروها إلى انهاء الأزمة وإعادة فتح القنوات الدبلوماسية بين دول مجلس التعاون الخليجي وخفض المواجهة الإعلامية، فضلاً عن عودة العلاقات الخليجية – التركية، وإعادة سوريا إلى الجامعة العربية وحضورها القمة العربية الأخيرة التي احتضنتها المملكة العربية السعودية في مدينة جدة.

وكذلك الحدث الأهم المتعلق بعودة المفاوضات بين الرياض وطهران، التي اسفرت عن عودة العلاقات بين الطرفين في آذار الماضي وإعادة فتح السفارات في البلدين بعد أن أُغلقت بعد حادثة إعدام السلطات السعودية الداعية السعودي الشيخ باقر النمر.

إنَّ فرضيات إحلال السلام في المنطقة، وعودة الاستقرار السياسي والأمني لها، لم تعد فرضيات تحركها مصالح الاقطاب الماسكة بالنظام العالمي، فدول المنطقة وقادة الدول الرئيسة تقع على أعتاقها مسؤولية سياسية وأخلاقية في الحث على استقرار المنطقة بغض النظر عن دوافع ومصالح تخفيض التصعيد. فالمنطقة أُنهكت من عديد الحروب الداخلية والحروب بالوكالة وعدم الاستقرار السياسي والأمني فيها، وقد دفعت شعوب المنطقة تكاليف باهظة من منذ مطلع الألفية الثانية وحتى الآن، ولاسيما بعد أحداث الربيع العربي.

وتعد طهران الطرف الإقليمي الذي يمسك بالكثير من ملفات الاستقرار وعدم الاستقرار في المنطقة، التي عادة ما تستغلها وتستثمرها في صراعها الإقليمي مع دول المنطقة أو في صراعها ضد الولايات المتحدة الأمريكية وتهديد مصالحها في المنطقة، ولعل العراق وسوريا واليمن ولينان، الدول الأكثر تضررًا جراء هذا الصراع.

إنَّ خفض التصعيد الحالي في المنطقة تقف خلفه الكثير من الاسباب، سواء تلك التي تتعلق بزيادة الثقة الذاتية لدى بعض دول المنطقة وقادتها، أو الإدراك الحاصل لديهم (كما يسميه الكاتب بول سالم) بأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على حل مشاكلهم، أو أن الحلول التي تأتي من الإدارات الأمريكية، هي حلول تتناسب مع المصالح الأمريكية أكثر مما تناسب دول المنطقة وطبيعة الاستقرار فيها، فضلاً عن التحول الحاصل في نهج المملكة العربية السعودية من المواجهة إلى التفاوض وخفض التصعيد في اليمن وقطر، وكذلك القناعة التي وصلت لها دول المنطقة بإحلال السلام بدل الصراع في المنطقة والاستفادة من حالة الاستقرار الذاتي في تطوير قدراتهم السياسية والاقتصادية.

وعلى الرغم من أن التحول من العداء إلى الصداقة بين طهران والرياض يعد من المكتسبات المهمة والكبيرة التي تحققت في المنطقة على مدار السنوات الاخيرة، الأمر الذي من شأنه أن يعاود الاستقرار السياسي للكثير من دول المنطقة ويخفف من نزعة الحروب بالوكالة، كما يحصل في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فضلاً عن زعزعة الاستقرار في بعض دول المنطقة. إذ يوفر هذا التحول فرصة كبيرة للتقدم السياسي والاقتصادي لبعض دول المنطقة مثل العراق ولبنان، إلا أن طهران لا يبدو بأنها ستتخلى عن سياساتها في المنطقة، ولاسيما الحروب بالوكالة وتلك السياسة التي اعتمد عليها النظام السياسي الإيراني منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى الآن.

نعم، قد يجد البلدان ضرورة ملحة في خفض التصعيد، بما له من مردودات إيجابية، ولاسيما في اليمن أو ما يتعلق بالمخاطر التي يشكلها الحوثيون على الاقتصاد السعودي وكذلك الإيراني، ولاسيما في ظل العقوبات الأمريكية والغربية على النظام السياسي الإيراني وحالتي التدهور الاقتصادي وانهيار العملة الإيرانية مقابل الدولار الأمريكي، إلا أن انعكاس ذلك التقدم قد يكون أقل مردودًا في العراق وسوريا ولبنان. فليس من السهل أن تتخلى طهران عن حلفائها او أذرعتها في هذه الدول، ولاسيما أنها تحقق لها مكاسب سياسية واقتصادية كبيرة، وتمثل ورقة تفاوض رابحة بيد صانع القرار الإيراني.

فضلاً عن ذلك، فإن فك الارتباط العقدي فيما يتعلق بالتشيع السياسي بين إيران ووكلائها في المنطقة أمر صعب جدًا، إلا اذا أدركت طهران بأن الطريقة الأفضل لإدارة المنطقة في بناء نظام إقليمي متكامل قائم على الدولة فقط، ويكون من خلال انتاج الفوائد الأمنية والاقتصادية، بما يحترم مفهوم الدولة القومية، ونظام لا يبنى على الشك والخوف ودعم المليشيات هنا وهناك، بل من خلال التعاون المستمر، أي على ما تفرضه فرضيات النظرية الليبرالية الجديدة وليس على فرضيات النظرية الواقعية الجديدة التي تنظر دائمًا إلى الآخر بأنه تهديد لنفوذها.

بالمجمل، إن إحلال السلام واستقرار الشرق الأوسط وخفض التصعيد فيه، أصبح ضرورة ملحة للعالم، ولاسيما للدول المتصارعة ودول المنطقة أجمع؛ فهناك ملفات أخرى أكثر أهمية يجب التصدي لها، تتعلق بمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والبيئية للسنوات القادمة، ولاسيما تلك التي تتعلق بالتغير المناخي والاحتباس الحراري، الذي يهدد المنطقة برمتها؛ لهذا يجب أن يتحمل قادة دول المنطقة المسؤولية الاخلاقية في إنهاء الصراع وإحلال السلام لتلافي المشاكل الاقتصادية والبيئية المستقبلية، بعيدًا عن الدور الغربي أو الشرقي، الذي عادة ما يريد أن يرسم استقرار المنطقة لصالحه أو يستثمره في صراعه الدولي.

وهذا الدور، هو مسؤولية تضامنية لكل دول المنطقة، ولاسيما لأطراف الصراع الإقليمي، ولا يمكنه أن يكون مجديًا وفاعلًا دون أن تتخلى كل الفواعل الإقليمية عن أدوارها السلبية المزعزعة للاستقرار في المنطقة، ولاسيما تلك التي تتعلق بالأدوار الإقليمية الطائفية والعداء الناتج عنها، وما تنتجه من حالة عدم استقرار على المستويين (المحلي والإقليمي)، وما تفرضه من تحديات سياسية وأمنية وخيمة على الدولة والمجتمع.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2023
www.fcdrs.com

اضف تعليق