q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

التوازن بين العرض والطلب في مفهوم الامام علي (ع)

مفهوم الزهد والاستهلاك في نهج الإمام علي (ع) (3)

الإمام علي طرح مفهوم (الزهد) من خلال عنوان الاجمال في الطلب، وهذا المفهوم يرجع بالإنسان إلى عملية التربية والتنشئة على حالة الزهد والبساطة في الحياة، ولكن المنهج الرأسمالي يرى إن احتواء الاستهلاك يضر بالنمو الاقتصادي الذي ينظرون إليه على أنه مقدس باعتباره محور الرأسمالية. أصبح النمو الاقتصادي منفلتا...

نستكمل البحث في مفهوم الزهد عند الإمام علي (عليه السلام)، وكيف أن هذا المفهوم يعالج مشكلات كبيرة من الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي يعيشها الإنسان في عالم اليوم بسبب التعقيدات التي انتجها التطور المادي والتكنولوجي.

فقد أصبحت المادية التكنولوجية مؤرّقة للإنسان، وأحدثت القلق في حياته، بحيث لا يستطيع أن يرى المستقبل مفتوحا أمامه، ولا يشعر بالاستقرار والاطمئنان.

وقد طرحنا بعض الأرقام والإحصائيات حول أزمات العالم التي يمكن ان تثبت بأن الاستهلاك المفرط في العالم هو الذي يؤدي إلى هذا التعقّد الاقتصادي، وإلى هذه الشراهة المادية، بسبب التطور التكنولوجي والاحتكاك الناتج من العولمة والتقارب فيما بين البشر تقاربا ماديا وليس تقاربا أخلاقيا.

هذا التقارب الثقافي أدى إلى الاحتكاك بين الشعوب والأمم وانتقال العادات المادية والاستهلاكي والسلوكية السيئة كالهشيم في النار، وهذا نلاحظه للأسف الشديد في التكنولوجيا اليوم كالفضائيات التلفازية، وشبكات التواصل الاجتماعي، والأنترنيت والمنصات الرقمية، كل هذه الوسائل تشجع على الاستهلاك الأعمى، الاستهلاك الشره، الاستهلاك المفرط.

التضخم الناتج عن الطلب

أدى هذا النوع من الاستهلاك إلى ازدياد الطلب الكبير الذي يعبر فوق حاجات البشر ويتجاوز حدود المنفعة الطبيعية، وهو تجاوز للحاجات من أجل تلبية الرغبات والشهوات والأهواء، والانغماس في حالة من الاستهلاك الترفي الذي يخرج عن حاجات الإنسان الطبيعية، النفسية والجسدية والروحية والاجتماعية.

وعندما يزداد الطلب على سلع أو خدمات ما، فإنه من الممكن أن يؤدي إلى رفع الأسعار، وإنفاق الناس المزيد من الأموال بدلا من ادخارها بل الوقوع في فخ الديون. وعندما لا تكون هناك سلع إضافية كافية لزيادة المعروض، يعمد التجار إلى رفع أسعارهم، ما يؤدي إلى تضخم ناتج عن الطلب، والذي يطلق عليه أيضا "تضخم الأسعار".

فهذا الطلب الكبير عند الناس فاق العرض وأدى إلى ارتفاع الأسعار، مع عدم قدرة الأجور أو مستوى القوة الشرائية على تلبية هذا الشيء، فقامت الاقتصادات العالمية والبنوك الرأسمالية برفع أسعار الفائدة الربوية، من أجل خفض التضخم وبالتالي خفض الأسعار حيث أخذت تؤذي الناس بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة مع عدم قدرة الأجور على تلبية الحاجات الأساسية.

لكن نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة جعلت الاقتصادات تعيش في حالة ركود وبطء في النمو الاقتصادي، وأدى ذلك أيضا إلى توقّف الاستثمارات وتوقف المشاريع وتوقّف الأعمال، وهذا يؤدي بدوره أنتج ازدياد البطالة، ونلاحظ اليوم في الكثير من الدول خصوصا في الغرب، حدوث إضرابات ومظاهرات تطالب بتحسين الحياة الاقتصادية للناس.

لقد حاولوا إيقاف التضخم من خلال رفع الفائدة الربوية لكن حلولهم تسببت بمتوالية من الازمات الأخرى التي تخلق المزيد من العواصف.

النمو الاقتصادي قاطرة منفلتة

الإمام علي (عليه السلام) طرح مفهوم (الزهد) بشكل جميل ورائع وواقعي وعملي من خلال عنوان الاجمال في الطلب أو الاقتصاد في الطلب، وهذا المفهوم يرجع بالإنسان إلى عملية التربية والتنشئة على حالة الزهد والبساطة في الحياة، والخروج من حالة التعقيد المادي، ولكن المنهج الرأسمالي يرى إن احتواء الاستهلاك يضر بالنمو الاقتصادي الذي ينظرون إليه على أنه مقدس باعتباره محور الرأسمالية.

ولذلك أصبح النمو الاقتصادي منفلتا، وهذا الانفلات أدى إلى اختلالات اجتماعية واقتصادية من ناحية البطالة والركود والتضخم، كذلك تضخم التفاوت فيما بين الطبقات الاجتماعية، فهنالك طبقة غنية جدا، وأخرى فقيرة جدا، حتى الطبقة الوسطى أخذت تنتقل إلى مستويات الطبقة الفقيرة، وكذلك تسببت بأزمة أخرى وهي الديون واضطرار الناس الى الاستدانة حتى أثقلت الديون كواهلهم.

لذلك فإن الاستهلاك المفرط والشراهة الاستهلاكية، أدى إلى ارتفاع مستوى التوقعات الاجتماعية فأدى ذلك إلى ازدياد حالات من الطلاق بين الأزواج في مختلف المجتمعات، وكذلك عزوف الشباب عن الزواج بسبب ارتفاع التكاليف، وكذلك انتشار مظاهر أخرى من حالات الفساد الأخلاقي، والاختلاس والرشوة نتيجة لنمو التوقعات المادية عند الناس والتعلق الكبير بالكماليات الشكلية الزائفة.

ما هو الحل؟

الامام علي (عليه السلام) يشير الى ان الحل في عملية التقنين الذاتي النفسي والاجتماعي والثقافي والاخلاقي لعملية الطلب والاستهلاك، فعملية الاستهلاك المادي الكبير، لا يمكن أن تُعالج إلا من خلال اعتماد منهج الزهد الذي يعني خلق البساطة في الحياة، وخفض التوقعات المادية، وبالنتيجة الإجمال في الطلب والمكتسب.

واعتماد هذا المنهج سوف يؤدي إلى عملية التوازن في الحياة الاجتماعية، وبناء الاعتدال الإنساني فيما بين التوقعات وبين الرغبات والحاجات التي يخوضها مختلف الناس يوميا في حياتهم، وحين يعرف الإنسان الزهد فهو سيعرف كيف يعيش حياته، وكيف يدير حياته، وأمواله، وكيف يدير شهواته ويتحكم بنفسه، وكيف يتحكم برغباته ويكون عاقلا مسؤولا يستطيع أن يمارس الإدارة المادية وإشباع حاجاته بصورة معتدلة وطبيعية.

منهج الإمام علي (عليه السلام) حول مفهوم الزهد في الحياة يمكن أن نفسره في عدة معانٍ:

المعنى الأول: الإجمال في الطلب

الإمام علي (عليه السلام): - من وصاياه لابنه الحسن (ع) -: (يا بني فإن تزهد فيما زهدتك فيه وتعزف نفسك عنها فهي أهل ذلك، وإن كنت غير قابل نصيحتي إياك فيها، فاعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك، ولا تعدو أجلك فإنك في سبيل من كان قبلك، فخفض في الطلب وأجمل في المكتسب).. فكما أن الدنيا زهدت بك ولم تعطِك توقعاتك المادية والدنيوية فازهدْ بها واعزف عن هذه الدنيا.

هذه الوصية المقصود منها الناس جميعا وليس الإمام الحسن (عليه السلام) وحده، وإنما هو خطاب لجميع الناس، بعض الناس لا يقبل هذا التوجيه لأنه يريد أن يعيش حياته حسب التوقعات الموجودة عنده، لكن الإمام علي يقول له إن الدنيا لا تفيدك بشيء، فابتعد عن الدنيا واعزف عنها، وابحث عن طريق ثانٍ، ولكن إذا أردت أن تعيش سعيدا في هذه الدنيا، وتكون معتدلا متوازنا فعليك أن تخفِّض في توقعاتك وطلباتك وارباحك.

التخفيض في الطلب يعني أن تقلل مما تطلبه وما تستهلكه، وأجمل في المكتسَب أي كن معتدلا في عملية الربح حتى يتحقق التوازن الاقتصادي بين العرض والطلب، بحيث لا تكون الأرباح عالية جدا، ولا يكون الاستهلاك عاليا جدا، فيؤدي إلى تلك الاختلالات والتطرف بين العرض والطلب فيتسبب هذا الاختلال بالتضخم والركود وتصاعد المشكلات الاقتصادية الناتجة عن انغماس الإنسان في الدنيا وعالم الاستهلاك والترف.

التأني في الطلب والمكتسب

وعن الإمام علي (عليه السلام): (خُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا أَتَاكَ وَتَوَلَّ عَمَّا تَوَلَّى عَنْكَ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَأَجْمِلْ فِي الطَّلَبِ)، فأجمل في الطلب يعني كن معتدلا وغير مفرط في الطلب وكن متوازنا في ذلك بما يتناسب مع حاجاتك، ومعنى (أجمل في الطلب) أَجْمَلَ في الطلب: تمهل وتأنى واعتدل فلم يفرط.

المشكلة في الاقتصاد تحدث من الطرفين، وهما المنتج الذي يصنع الأشياء والذي يبيع الأشياء ويسوقها، وكذلك من طرف المستهلك الذي يستهلك هذه الأشياء ويشتريها، بمعنى إن المشكلة تحدث من طرف البائع والمشتري، فالمنتِج البائع يبحث دائما عن المزيد من الربح، ولا يهمه شأن البضاعة ودرجة جودتها، وهناك كثير من المنتجين والباعة ينطبق عليهم هذا الوصف، المهم أن يحقق أرباحا هائلة، فيغوي المستهلك ويخدعه، وفي كثير من الأحيان يحتال على المستهلك ويربح منه أرباحا كبيرة.

أما المستهلك، فهو الذي لا يعرف طبيعة البضاعة ويقوده طمعه للوقوع في فخ الاستهلاك الأعمى، لذلك فإن الإجمال يشمل كلا الطرفين، وهما الإجمال في الطلب، والإجمال في المكتسَب، هذه مشكلة أساسية، أن نخلق التوازن بين الأرباح وبين الاستهلاك، وهذا التوازن يحققه مفهوم الزهد والاعتدال فيما بين الطلب والعرض، وفيما بين الانتاج والاستهلاك، وفيما بين البائع والمشتري.

ترويج الزيف

وعن الإمام علي (عليه السلام): (الأرزاق لا تنال بالحرص والمغالبة).

المغالبة أي الحصول على الأرباح بأي ثمن، وباي وسيلة، هذا كلام موجّه إلى المنتج، فالحريص على الربح تراه يمارس عملية المغالبة بكل الطرق، ويحاول أن يسوق بضاعته بأشكال وعروض جميلة وفي دعاية جذّابة وإعلانات لافتة للانتباه، فيعطي رونقا زائفا كبيرا لبضاعته وهي لا تستحق ذلك، من أجل أن يخدع المشتري، وأن يغرّر به، وهذه إحدى المشكلات الكبيرة في عالم اليوم، ونعني بها خداع المشتري واغرائه بالاستهلاك المرضي.

وقد لاحظنا العالم الرأسمالي اليوم، بأنه يكرر بيع البضائع نفسها بأشكال جديدة، وهذا يؤدي إلى التغرير بالمستهلك، وبالنتيجة يحدث الاستهلاك الأعمى والمفرط، وبهذا أصبحت مخاطر العالم المادي كبيرة بسبب الطلب المتكرر.

إن المغالبة قضية خطرة جدا، وسوف نتطرق لهذا الموضوع حول عملية الربح بين الحلال والحرام، وهذا يعني الخروج على الموازين، والخروج على الطبيعة البشرية والفطرة السليمة، المعتدلة القائمة على الثقة والصدق والأمانة.

المغالبة كذب واحتيال، وبعضهم يسميها (شطارة) في عملية البيع وخداع المشتري، وشطارة في عملية كسب الأرباح، لكن هذه العملية ليست رزقا حلالا، فالأرزاق تأتي من الله سبحانه وتعالى، والأرزاق لا تُنال بالحرص الشديد، لأن الحرص من الصفات الشريرة حيث تؤدي بالإنسان إلى الطمع الشديد، وإلى الربح السيّئ والدخول في المال الحرام.

هذا الحرص الشديد بالنسبة للذين يريدون أن يسترزقوا بأية طريقة كانت، يؤدي إلى تدمير عالم الاقتصاد، وعالم الأسواق، على سبيل المثال لو أن أحد الباعة دمّر الناس من خلال البيع الغالي، والاحتكاري، وتحقيق الربح المفرط، ما الذي سيبقى للناس، وكيف يستطيعون العيش، إن هذا البائع يدمر السوق، وعندما يدمر السوق سوف يخسر هو أيضا.

الاسترباح المفرط

فالعقلاء في حركة الاقتصاد والتجارة يمارسون العملية الأمينة في البيع، ولذلك سوف يربح أكثر لأن الناس يعيشون من خلال التوازن بين البيع والشراء، ولذلك فإن عملية المغالبة والاسترباح المفرط والاحتيال في الربح يؤدي إلى الازمات الاقتصادية وفقدان الثقة بالأسواق، وتدمير الدخل الأساسي للفرد الذي من خلاله يقوم الناس بعملية الشراء وتلبية حاجاتهم الأساسية وغير الأساسية في حياتهم المعيشية.

(أجملوا في الطلب)، هذا القول يعيده الإمام علي (عليه السلام) في روايات كثيرة، لأنه هذا هو الاقتصاد الصحيح السليم، ولو ذهب الاقتصاديون اليوم وراء هذا القول وطبقوا محتواه، وذهبوا نحو حل المشكلات الاقتصادية، من هذا الباب ومن هذا المنعطف، لاستطاعوا أن يحلّوا الكثير من المشكلات الاقتصادية.

الاقتصاديون يحاولون أن يحلوا المشكلات الاقتصادية من جهة الاقتصاد فقط، وكأنه حالة ميكانيكية، وعلم جامد وثابت، وهذا تصوّر وتصرف خاطئ، ماذا يحدث إذا رفع أسعار الفائدة؟، يرفعها لكي يواجه التضخم، لكنه سوف ينتج الركود عن ذلك، ولكن هذا تعامل خاطئ، لأنه يدمر الأسواق ويدمر أعمال الناس. لذلك الحل يكمن في تخفيض الطلب والاستهلاك.

الإمام علي (عليه السلام) يعطي منطلقا سلوكيا أخلاقيا، فعالج المشكلة عبر مفهوم الاستهلاك المعتدل، أي يكون الإنسان معتدلا في الطلب، وهذه مشكلة أخلاقية نفسية سلوكية ثقافية، فإذا عالجت كعالِم اقتصادي هذه المشكلة من هذا المنطلق، بالاتفاق مع علماء الأخلاق وعلماء النفس ومع علماء الاجتماع، سوف يؤدي ذلك إلى حل المشكلة الاقتصادية.

فالاقتصاد هو ليس اقتصادا محضا قائم على الأرقام والاحصاءات، بل هو علم إنساني يقوم على علم النفس السلوكي، وعلى علم الاجتماع، لذلك هناك حاجة للتقويم النفسي والأخلاقي للناس في عملية بناء الاعتدال الاقتصادي والاستهلاكي، وهذا يؤدي إلى حل المشكلات الاقتصادية، وفي نفس الوقت تحقيق النمو الاقتصادي السليم الصالح، وليس النمو الاقتصادي المفرط القائم على الربح بلا حدود.

الماكنة الاقتصادية السليمة

هكذا تكون الماكنة الاقتصادية ماكنة سليمة وصحيحة، تستطيع أن تحقق الاقتصاد المستقر المستدام في طريق مستقيم، ولو أننا قرأنا حال الاقتصاد اليوم، فإننا سوف نلاحظ خلال العقدين الماضيين المنحنيات الاقتصادية صاعدة نازلة بوتيرة متعاقبة متطرفة، لكن هذا التذبذب في المنحنيات الاقتصادية يدمر الناس ووضعهم المعيشي.

لهذا فإن الكثير من الاقتصادات الكبيرة انهارت وأصبحت اقتصادات كهلة، غير سليمة وغير سوية، كذلك الاقتصادات الناشئة أصبحت مريضة ومرهقة، أما الاقتصادات الضعيفة في الدول الفقيرة فقد انهارت بسبب هذا الافراط في عملية الاستهلاك، وعملية النمو الاقتصادي الأعمى الذي لا يقوم على موازين سلوكية ونفسية معتدلة.

لذا يقول الإمام علي (عليه السلام): (أجملوا في الطلب، فكم من حريص خائب، ومجمل لم يخب)، فالإنسان الحريص على الربح وعلى النمو وعلى الاستهلاك الاقتصادي ولديه حرص كبير كي ترتفع الأسهم الخاصة به مهما كانت النتائج، وعنده حرص على الاستهلاك الكثير، هذا الإنسان هو حريص خائب، وينطبق عليه هذا القول، فكم من حريص فاشل، وكم من مجمل مقتصد معتدل ناجح في حياته، وهذا هو معنى الاقتصاد الناجح والاقتصاد الفاشل، التي تتحقق من النتائج الجيدة للإنسان الذي يدير حياته بطريقة صحيحة وسليمة.

فالإجمال في الطلب هو الذي يحقق متغيرات الاقتصاد الصحيح والسليم، ويفرزه عن الاقتصاد السيّئ والاقتصاد الفاشل، لماذا يخيب الإنسان الحريص، والمجمل لم يخب؟، السبب لأن الحريص لديه شغف وطمع دائم بالحصول على الأشياء والأموال، فهذا الأمر يؤدي به إلى زيادة الإنفاق الاعمى وفقدان الادّخار، وبعضهم حين يستنفذ مدّخراته يقع في فخ الديون.

الحرص والقلق النفسي

فالحرص يؤدي إلى الإدمان المرضي والقلق النفسي لأنه لا يشعر بالشبع، فيتصوّر أنه عندما يكون حريصا ويأكل ألذ الأطعمة ويشرب ويلبس ويغيّر سياراته، يتصور أنه سوف يحصل على تلك اللذة التي يبحث عنها، لكنه لا يحصل عليها، لأنه يقع في فخ الإدمان.

بالنتيجة يشعر بالنقص في نفسه، وهذا نتيجة القلق والتوتر المستمر، لذلك فإن الحرص آلية مدمّرة للإنسان، تؤدي به إلى ثقب أسود مفتوح، فإذا وقع فيه لا يخرج منه، لذلك لابد أن يحرص الإنسان على أن يخفف من حدة الحرص لديه، ويحد من الطمع ويسيطر على هذا الأمر حتى لا يقع في هذه الدائرة المغلقة أو الثقب الأسود الكبير الذي يؤدي به إلى الإدمان والقلق النفسي المستمر.

كذلك قد يؤدي به إلى التنافس الاجتماعي القائم على التجمّلات الزائفة، فيلاحظ نفسه أنه يريد أن يصل إلى طبقة معينة لينافس هذا الشخص أو ذاك أو تلك العائلة، ويريد أن يرفع من مستوى معيشته ويرفع من مستوى سيارته ومستوى ملابسه ومستوى إنفاقه، لكن هذه التجمّلات زائفة تؤدي به إلى الانفاق الزائد وإلى التكاليف الباهظة، وبالنتيجة سينتهي إلى الفشل، وهذا كله بسبب سوء الإدارة عند الإنسان ورؤيته العمياء للأمور.

نتائج سوء إدارة الأموال

الإنسان الذي يمتلك الأموال، لابد له أن يدير أمواله بصورة صحيحة، ويبتعد عن سوء الإدارة لأنها تؤدي به إلى الفشل، بسبب هدر الأموال والإسراف الذي ينتج عن ارتفاع التكاليف، وعندما ترتفع تكاليف حياة الإنسان، فهذا يعني إنه لا يمتلك الإدارة الجيدة، ويعني أن هناك هدرا في حياته، أما العكس من ذلك فإن المجْمِل المقتصِد يكون ناجحا في حياته بسبب تركيزه على الإدارة والاعتدال والإنصاف، فيكون ناجحا دائما.

أو يكون هكذا إنسان ناجحا في أكثر الأحيان، لأنه مقتصد ومجمِل، ويعرف أين وكيف يصرف أمواله، ويعرف أن يضع أمواله ولا يهدرها بطريقة خاطئة، ولا يعبأ بالتجمّلات الزائفة، ولا تهمه الكماليات الخادعة، فيحاول أن يدير المصروف في محفظته بطريقة جيدة وسليمة ولا تهدر أمواله، على إنفاقات غير مطلوبة وليس محتاجا إليها.

لذلك هذا هو ما يعبر عنه الحديث العلوي الجميل، (كم من حريص خائب ومجمل لم يخب)، فالإنسان الذي يقع في التجملات الزائفة والحرص الشديد، سيؤدي به ذلك إلى الفشل، بسبب سوء إدارته وارتفاع تكاليفه.

ولكن الإنسان المجْمِل المقتصد المدير لأمواله بصورة سليمة، سوف يكون ناجحا وغير خائف في عملية إدارة أمواله، وهذا الأمر ينطبق أيضا على الاقتصاد وحال الاقتصادات في العالم كله.

مثال عن ذلك الحرص على المظاهر الشكلية، بناء المولات، بناء العمارات الشاهقة، حتى يقول الآخرون عن الحاكم بأنه بنى القصور، وأنه إنسان قام بالإعمار الجيد، ويعمل دعاية كبيرة لنفسه عن طريق هذا البناء الكبير، ولكن هذه الأعمال تؤدي إلى استنزاف أموال الدولة، وسقوط الدولة وموازنة الدولة في ديون كبيرة.

وهذا يؤدي بدوره إلى عملية تدمير الاقتصاد، فالإنسان الحريص على الحالة الدنيوية لا يكون حريصا على الإدارة الجيدة لاقتصاد بلده، وإدارة الموارد بصورة مثمرة ومنتجة، فإنه بالنتيجة سوف يكون حاكما فاشلا.

وسوف نستمر في بحث مفهوم الاجمال في الطلب وانتهاج الإدارة الناجحة للاقتصاد من خلال منهج الزهد عند الإمام علي (عليه السلام) في مقالنا القادم.

وللبحث تتمة...

اضف تعليق