لا نريد التبرير للشعب فهو يتحمل جزءاً مما يجري في البلاد، لكن الحمل الأكبر يقع على السلطة التي أحكمت قبضتها على كل ما يسمح للمواطن بتأسيس عقلية نقدية قادرة على اختيار المناسب وطرد السيء، وبينما كنا ننتظر من السلطة تشجيع الإبداع وابتكار الحلول وجدناها تنشر التجهيل التعليمي والإعلامي...
افتح نقاشاً مع أحد السياسيين العراقيين، وركز على مسألة أسباب استمرار الاضطراب في البلاد وعدم قدرتها على التقدم خطوات إيجابية للأمام، فضلاً عن الفشل المتواصل في بناء نظام سياسي قوي. سوف يتوصل السياسي إلى نتيجة عميقة، "كيفما تكونوا يولى عليكم".
أو هذا خيار الشعب، فهو من صوت على الدستور، وهو من انتخب كل البرلمانات السابقة التي انتجت لنا منظومة الحكم الحالية، وهو من انتخب النواب الحاليين الذين فشلوا حتى الآن في تشكيل حكومة جديدة.
من حيث الشكل يبدو الجواب صحيحاً، لكن يخفي مغالطة منطقية وهي مغالطة "المصادرة على المطلوب"، بما أن الشعب هو من ينتخب إذا المنظومة الحاكمة نتيجة طبيعية لقرار الشعب، وكل فشل لهذه المنظومة هو فشل لاختيارات الشعب.
لكن الواقع ليس بهذا الشكل، نصف الشعب لم يخرج للانتخابات منذ 2010 والنسبة في تزايد لعدد المقاطعين للانتخابات مع كل دورة انتخابية جديدة، حتى وصلت إلى 20% خلال الانتخابات الأخيرة، هذا يعني أن البرلمان الحالي يمثل قرار 20% من الشعب فقط، أما النسبة المتبقية فهي الرافضة.
الإشكالية الأكبر في تحديد المتسبب بالفشل تتمثل فيمن يسيطر على مصادر القرار لدى المواطن، فالسلطة هي من كانت تصنع خيارات الشعب، وتحدد له المسارات التي يجب أن يسير فيها.
بدأ المسار الأول بصناعة المحاصصة الطائفية التي فرضت على الجميع، وربطوها بالدين والمذهب، بحيث جعلوا الاعتراض على الجانب الطائفي للحكم مثل الاعتراض على الدين الذي يمثل أهمية كبرى للشعب، ويتمتع بقداسة عميقة.
الاستقواء بالخارج وصناعة الجماعات المسلحة، والدخول في عالم المال والأعمال عبر الاستفادة من الحصانة القانونية كلها أمور صنعت سياسياً لا يمكن المساس به، محصن من النقد، بعيد عن الشعب، قريب من المنافع الشخصية والحزبية.
هذا النوع من السياسيين لم تنفع معهم أكبر موجة تظاهرات شعبية عام 2019، استفادوا من علاقاتهم بالخارج ومن المناخ المضطرب الذي صنعوه فوجدوا الوسائل اللازمة لاستمرارهم.
وطوال العقدين الماضيين لم تولي المنظومة الحاكمة أهمية للنظام التعليمي، بل ساهمت في تدميره من خلال الإهمال المتعمد والتأسيس لتقاليد تعليمية خاطئة اغرقت الشعب بالجهل، والجاهل فاقد لقوة عقل سهل الانقياد، لا يدقق ولا يحاسب حكامه.
من خلال تدمير التعليم أجهزوا على عقل الشعب، ومن لا يملك عقلاً لا يستطيع البحث عن حلول لبلده.
وفي نظام ديمقراطي حسب ما يقول دستور البلاد تأخذ وسائل الإعلام مكانة مركزية في تنوير المواطنين بما يحيط بهم، وما يتم إخفاؤه من قبل الساسة والمتحكمين بالقرار، وكما الحال مع التعليم تمت السيطرة على وسائل الإعلام من قبل السطة، فلا تأتي المعلومات إلا بعد دخولها مختبر السلطة وصراعاتها، فتحولت المعلومة إلى سلاح أكثر من كونها الضوء الذي يضيء العقول.
العراق يملك أكبر عدد من شهداء الصحافة في جميع انحاء العالم، ومن الطرائف المحزنة أن نقيب الصحفيين العراقيين مؤيد اللامي يتفاخر في كل لقاء تلفزيوني، أو فعالية سياسية بأن العراق يملك هذا الإرث في قتل الصحفيين، وحجته في التذكير بالرقم القياسي للصحفيين باعتبارهم مصدر فخر للبلاد.
وكأن لسان حال نقيب الصحفيين يقول لنا احذوا العمل في الصحافة، لأن مصيركم الموت.
كيف سيكون عقل مواطن تغذيته التعليمية موبوءة، وتغذيته الإعلامية عبارة عن رصاص معلوماتي يستهدف دماغه؟ هل يستطيع اختيار المناسب للحكم؟
من خلال التعليم السيء صنعوا مواطناً أعمى، يقاد حيث تريد السلطة، وإذا لم ينقاد سيتم تحييده بالوسائل المناسبة، لا سيما إذا كانت هناك جملة من المحفزات الدينية والطائفية والقومية.
لا نريد التبرير للشعب فهو يتحمل جزءاً مما يجري في البلاد، لكن الحمل الأكبر يقع على السلطة التي أحكمت قبضتها على كل ما يسمح للمواطن بتأسيس عقلية نقدية قادرة على اختيار المناسب وطرد السيء، وبينما كنا ننتظر من السلطة تشجيع الإبداع وابتكار الحلول وجدناها تنشر التجهيل التعليمي والإعلامي، وهذه هي جريمتها في صناعة مواطن أعمى يقول دستورنا عنه أنه مصدر السلطات.
اضف تعليق