ما تزال الحيرة تستوقف الشعوب والأمم عن السبب في ابتلاء بعضها بقادة ينطلقون من بداية ثورية وتنموية نحو أهداف نبيلة في ظاهرها، ثم يتجهون نحو أهداف سلطوية نفعية تعبر عن مصالح حزبية أو فردية، أكثر مما تستجيب لحاجات وطموحات الجماهير...
ما تزال الحيرة تستوقف الشعوب والأمم عن السبب في ابتلاء بعضها بقادة ينطلقون من بداية ثورية وتنموية نحو أهداف نبيلة في ظاهرها، ثم يتجهون نحو أهداف سلطوية نفعية تعبر عن مصالح حزبية أو فردية، أكثر مما تستجيب لحاجات وطموحات الجماهير.
في الغرب الليبرالي شهدت أوربا تجربة ديمقراطية مريعة فاز فيها الحزب القومي الاشتراكي في المانيا بزعامة ادولف هتلر في الانتخابات البرلمانية التي جرت في أجواء ديمقراطية بحتة، وقد عبّر الملايين من الالمان عن ايمانهم بمبادئ هذا الحزب، وحبهم وولائهم لهتلر، فرفعوه على الأكف الى منصب مستشار المانيا (رئيس الوزراء)، وكانوا يصطفون بشكل منظم في الشوارع ليحييون هذا القائد المُلهم الذي افترضوه محققاً لطموحاتهم في النمو والتقدم والنهوض من كبوة الحرب العالمية الاولى، وتحطيم القيود المفروضة على المانيا بسبب تلك الحرب، والعودة ببلادهم قوية ومهابة في اوربا والعالم، ولكن! أفاق الشعب الالماني من حلمه وهو يرى أن هذا القائد المحبوب يقودهم الى حرب ضروس، ودمار رهيب، وخسائر لم يتمكن أحد من تقديرها آنذاك، أهمها مقتل حوالي 70 مليون انسان في اوربا، معظمهم من الشعب الالماني.
وفي الشرق ثمة تجارب عدّة شهدت فيها الشعوب انقلاب أهداف القائد من تغيير الواقع الفاسد الى تكريس واقع أفسد منه، من خلال برامج اقتصادية فاشلة، او سياسات لا تمتّ الى الاخلاق والانسانية بصلة، ولعل هذا يفسر ظاهرة الحنين والحسرة لدى بعض الشعوب على الانظمة الديكتاتورية البائدة رغم مشاركتها هي في الاطاحة بها.
غياب المعيّار الصحيح
في العصور الماضية كان المال هو معيار القوة الجاذبة لولاء المجتمعات للحكام، وبهذا المال يمتلك الحاكم السلاح والجنود المطيعين، ثم يفرض هيمنته على اقتصاد البلد، وعلى معيشة الناس ومصائرهم، وهذا ما كان واضحاً في الجزيرة العربية قبل الاسلام، كمثال قريب علينا.
أما في العصر الجديد فان المال لم يعد وحده المؤثر، فقد ظهر العلم كقوة حاسمة ومؤثرة في الحياة، تتدخل في جميع شؤون الانسان والطبيعة، فالتقدم في علوم الكيمياء والفيزياء والهندسة، وايضاً؛ في الاقتصاد والسياسة، جعل العلم بمنزلة الدعامة الأولى لمصالح الدول العظمى، بل أن ظهور شيء اسمه دول عظمى في العالم لم يكن لولا شق الطرق وسط الجبال، وتحليق الطائرات في السماء، وصناعة السفن العملاقة، وإطلاق المركبات الفضائية، واستخراج النفط والغاز، وسائر المعادن من باطن الارض، وغيرها من المنجزات العلمية الباهرة.
بيد أن هذه المنجزات هي الاخرى لم تكن دائماً في صالح الانسان، بل تحولت الى سبب رئيس في إصابة الشعوب بأمراض الكآبة والقلق والخوف عندما يرى هذا الانسان مليارات النفط والعائدات من الضخمة من التقدم العلمي في الصناعة والزراعة الى وسائل للدمار والموت في حروب طاحنة يدفع ثمنها بدلاً من الساسة ممن يتقنون تحويل هذه القدرات الى وسائل لكسب المزيد من المال.
هنا يؤشر العلماء الى قوة أخرى يفترض ان يمتلكها القائد متمثلة في قدرته على التحكم بالنوازع والرغبات الكامنة في النفس، مثل؛ حب الأنا، وحب السلطة، وحب التملك، والمجتمع الفاضل هو الذي يوفر الاجواء لظهور قائد بهذه المواصفات عندما يتخلى تدريجياً عن القيم المثيرة لتلك النزعات والرغبات الكامنة في نفس كل انسان، والقائد إنما هو أحد افراد هذا المجتمع، يولد ويترعرع بين الجموع، ولا ينزل من السماء، فالمجتمع المتقلّب في –مثلاً- يصنع قائداً متقلب في المواقف والقرارات ايضاً، فاذا كان المجتمع يتقلب بين الحب والكراهية، فانه يتقلب بين السلم والحرب، بقراراته ذات الثمن الباهض جداً في الارواح والممتلكات.
وقد كشف الاسلام في نظامه السياسي أن التقوى هي تلك القوة التي تمكّن القائد من استشراف المستقبل والتبصّر بالأمور قبل اتخاذ أي قرار، واحتساب النتائج والخسائر المحتملة قبل الخوض في أي مواجهة مهما كانت المبررات، أما اذا خرجت السلطة من إطار التقوى فانها ستنفجر وسط الناس، وسيكونوا هم وحدهم من يدفع الثمن.
وهذا لا يعني أننا نحلم بمجتمع ملائكي مطلقاً، وهو أمر غير معقول، إنما هي مسيرة للتكامل والتسامي، وقد أوقد لنا أمير المؤمنين، عليه السلام، شمعتها منذ اربعة عشر قرناً بقوله: "ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد"، في رسالته العتابية المعروفة الى واليه على البصرة عثمان بن حنيف، فهو يدعو الى السعي جهد الامكان للوصول الى منزلة من الفضل تجعل حاكماً مثل عثمان بن حنيف يرفض دعوة أثرياء البصرة على مائدة عامرة بالأطعمة بوجود حشود من الفقراء والمعدمين، كما ذكّر بهم أمير المؤمنين في هذه الرسالة، والقضية ليست بالصعوبة والتعقيد الذي يتصوره البعض فـ "إنما هي نفسي أروضها بالتقوى"، يقول أمير المؤمنين، وقد جرّب هذا الكثير مما عاشوا بعد أمير المؤمنين من غير المعصومين بإرادة وعزيمة لا تلين، وتركوا أثراً طيباً في المجتمع والأمة، وكانوا مثال القادة الناجحين والصالحين لمجتمعاتهم.
اضف تعليق