هل المكان هو الذي يحدّد الهوّية؟ أم أن الهوّية التي تكوّنت وترسّخت واكتسبت كيانية مستقرة تظهر على نحو جلي في بيئتها الحقيقية، حيث المكان والاستمرار والتفاعل لجهة اللغة والدين وغيرها من العناصر التي هي أقرب إلى الثبات، في حين أن العناصر الأخرى كالعادات والتقاليد والآداب والفنون...
يتكرّر أحياناً، وعلى نحو عاطفي وبشكل تجريدي، حديث ” الحفاظ على الهوّية” بصورة أقرب إلى العصبيّة، وقد يعود ذلك في أحد أسبابه إلى حالة التصدّع التي أصابت الأمة العربية بحيث تعرّضت الهوّية لخلخلة وارتكاس بفعل ضغوط خارجية وتحدّيات داخلية قد يؤدي استمرارها إلى المزيد من ضعضعة أركانها.
والهوّية بطبيعة الحال ليست “عقاراً” يمكن الحفاظ على ملكيته أو حتى حجبه عن تأثير الآخرين، أو كنزاً تاريخياً نخاف عليه من الكسر أو الإنثلام أو الضياع. إنها مجموعة من السمات الثقافية التي تمثّل الحد الأدنى المشترك بين الذين ينتمون إليها، بحيث تجعلهم يُعرفون ويتميّزون بصفاتهم تلك عما سواهم من البشر من أفراد الأمم والمجتمعات والشعوب الأخرى، وهي في الوقت نفسه تتطوّر وتتأثر بما حولها من متغيرات سلباً وإيجاباً، لأن التغيير قانون مطلق لا يمكن ردّه، وأية محاولات لمنعه ستنعكس سلباً على الهوّية بالأساس، مهما كانت الحجج والمزاعم. وبهذا المعنى فالهوّية ليست معطىً سرمدياً جاهزاً ونهائياً وغير قابل للتغيير، بل إنها في حالة تفاعل وتخالق مستمرين مثلها مثل الإنسان وحقوقه المتوالدة والتي لا تعرف الثبات والاستكانة. وهكذا فالهوّية لا تتكوّن بمجرد النشأة والانتماء الأولي، وهما مورثان طبيعيان، بصورة نهائية بل تتطوّر من خلال عملية الخلق والعمل والصيرورة، وهذه عملية إبداعية مستمرّة ومفتوحة موضوعياً، وازدادت تأثيراتها في ظلّ العولمة بوجهيها السلبي والإيجابي.
والأمر سيّان، سواء ما يتعلق بالهوّية الجماعية أم الهوّية الفردية، وهذه الأخيرة يُنظر إليها بارتياب وشك أحياناً في عالمنا العربي، حيث تتقدّم هوّية الجماعة، العشيرة، القومية، الدينية، الطائفية أو ما يُطلق عليه “هوّية الأمة” والتي ينبغي التماهي في بوتقتها الكلّانية الشمولية بحيث تطغى على الهوّية الفردية أو الفرعية.
ومن هذا المنظور يتم التعامل مع المجاميع الثقافية والتي يُطلق عليها مجازاً “الأقليّات”، وخصوصاً في بعض الدول المتعدّدة القوميات أو الأديان، أي من موقع استصغار الهوّية الفرعية، في مواجهة أي محاولة للتميّز والتمايز التي ستعني حسب هذا المنطق “المتسيّد”، المساس بهوّية الأمة، الجماعة البشرية السائدة مهما كانت تسميتها. وعلى أساس ذلك تنشأ ردود فعل جرّاء الشعور بالاضطهاد والمظلومية بما يؤدي إلى ضيق أفق وانغلاق، سواء أكان دينياً أم إثنياً أم لغوياً أم غيره، وسواء على المستويين الجماعي والفردي . وقد تختلف الجماعة أو الفئة أو الفرد باختلاف الأولويات، فتارة تأخذ اسم “القومية” وأخرى تتلفّح “الدين” وثالثة باسم “المذهب” ورابعة باسم “الآيديولوجيا”.
وهكذا، فالمختلف حسب هيمنة الفكر السائد لا يستحق سوى الإبعاد والإقصاء والنبذ، وما عليه الاّ الرضوخ والاستكانة وقبول حكم “الأغلبيّة” أو الجهة المهيمنة، وحسب الشاعر أدونيس فالأمر ليس نفياً للآخر بقدر ما هو نفي للذات في الآن، وبقدر انفتاح الذات على الآخر، فإن الهوّية تزداد غنىً، وبقدر ما تنكمش الذات وتتقلص في انتمائيتها، نشأة ومواطنة، تزداد فقراً، ولا يمكن طمس التغاير والتنوّع والتعدّد جزئياً أو كلياً. يمكن القول أن لا ذات بلا آخر، فلا ذات دون تأثير وتأثّر، وحين تكون الهوّية من القوة والفاعلية تكون أكثر ثقة بالنفس، وأكثر استعداداً للانفتاح على الآخر وأكثر حيوية في التعاطي والتلاقح، إذْ لا خشية أو خوف على الهوّية بقدر ما يمكنها الإفادة والاستفادة من الآخر، وتلك واحدة من مخرجات الحداثة، حتى وإن التبست بعض البدائل وتعثرت بعض النماذج.
والمسألة متعلّقة بالثقافة أيضاً، التي تشمل طريقة حياتنا كلّها وأخلاقنا ومؤسساتنا وأساليب عيشنا وتقاليدنا، حيث لا حدود لتفسير العالم، وإنما سعي لإعطائه شكلاً خاصاً به، والعالم، لاسيّما في ظل العولمة، أرخبيل مفتوح تتلاقى فيه الشعوب وتتمازج فيه الهوّيات، فمثلاً رغم السمة الغالبة للمجتمع العربي لغوياً وإثنياً ودينياً (العربية – الإسلامية) لكنه كان تاريخياً نتاج ملتقى القوميات والإثنيات والثقافات مثل: السومريّة والبابلية والأشورية والفينيقية والفارسية والهندية والتركية والكردية والزنجية، وإضافة إلى الإسلام هناك المسيحية واليهودية، وتمازجت هذه الثقافات والأديان المتنوّعة في كلِّ إنساني وثقافي واحد، لكنه متعدّد. يتعذّر الحفاظ على الهوّية بأساليب القمع والطغيان والانعزال، فهذه الممارسات تؤدي إلى تصحير الهوّيات، خصوصاً الانغلاق والانكفاء والتقوقع والخوف من الآخر، ومثلما لكل إنسان هوّيته الخاصة، فإنها تتعزّز بالانفتاح على الغير، فرداً أو جماعة، وقد يكون الإنسان يحمل أكثر من هوّية، بمعنى أنه عربي أو كردي أو تركماني، مسلم أو مسيحي أو غير ذلك، لكن هوّيته العامة عراقية أو سورية أو لبنانية، وكذا الحال لمن عاش في المنفى، فرغم احتفاظه بهوّيته، فقد يكون قد أضاف إليها هوّية مكتسبة. وهنا يُثار تساؤل مشروع: وهل المكان هو الذي يحدّد الهوّية؟ أم أن الهوّية التي تكوّنت وترسّخت واكتسبت كيانية مستقرة تظهر على نحو جلي في بيئتها الحقيقية، حيث المكان والاستمرار والتفاعل لجهة اللغة والدين وغيرها من العناصر التي هي أقرب إلى الثبات، في حين أن العناصر الأخرى كالعادات والتقاليد والآداب والفنون تتعزّز وتغتني باستمرار بالإضافة والحذف والتواصل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات فردياً أو مجتمعياً!.
اضف تعليق