ملفات - عاشوراء

الحاكميَّة في إطار القيم

عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الثَّانية عشَرَة (١٨)

أَمَّا الحُسين السِّبط (ع) فلَم يضحِّي من أَجلِ حاكميَّةِ الإِسلام، أَيّاً كانت، وإِنَّما من أَجلِ قيَمهِ ومبادئهِ والتي تقِف على رأسِ أَولويَّاتِها العَدل ولذلكَ قالَ (ع) مثلي لا يُبايِع مِثلهُ فهوَ (ع) رسمَ منهجاً. وعندما تتعارَض الحاكميَّة مع القِيم فالأَولويَّة للثَّانية وعندَها تصبَح قيمة الأُولى عفطةُ عنزٍ أَو شِسعُ...

أَوليسَ هو الإِسلام الذي ضحَّى من أَجلهِ جدَّ الحُسين السِّبط (ع) رسولُ الله (ص) بالغالي والنَّفيس وتحمَّل من أَجلهِ كُلَّ عذابات الدُّنيا حتَّى قالَ (ص) (ما أُوذِيَ نبِيٌّ مِثلَ ما أُوذِيت) وكُلُّ ذلكَ لتحقيقِ حاكميَّتهِ في المُجتمعِ؟!.

 أَوليسَ هو الإِسلام الذي قاتلَ للدِّفاع عنهُ رسولُ الله (ص) في الصُّفوف الأَماميَّة لم يتقدَّمهُ أَحدٌ حتَّى وصفهُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ (كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرسول الله (ص) فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ) وكُلُّ ذلكَ من أَجلِ أَن تتكحَّلَ عيونَ الخَلقِ بحاكميَّتهِ لإِقامةِ القسطِ والعدلِ بين العبادِ من دونِ تمييزٍ؟!.

 أَوليسَ هو الإِسلام الذي [تقاتلَ] عليهِ الأَهل والأَقارب عندما انقسمُوا إِلى فريقَينِ؛ فريقٌ يريدُ العودةَ بالمُجتمعِ إِلى حاكميَّةِ الجاهليَّةِ الأُولى وفريقٌ يريدُ تثبيتَ حاكميَّة السَّماء لإِزاحةِ الظُّلمِ ونشرِ العدلِ وحمايةِ الحقوقِ لكُلِّ المُواطنينَ في الدَّولةِ، كما وصفَ هذا التَّقاتلَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ (ولَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه (ص) نَقْتُلُ آبَاءَنَا وأَبْنَاءَنَا وإِخْوَانَنَا وأَعْمَامَنَا؛ مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وتَسْلِيماً ومُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الأَلَمِ وجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، ولَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا والآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا؛ أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا ومَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَه ومُتَبَوِّئاً أَوْطَانَه).

 أَولَيست هذهِ الحاكميَّة هي التي قاتلَ من أَجلِ حمايتِها والذَّودِ عنها الحُسين السِّبط (ع) كَتِفاً لكَتفٍ مع أَخيهِ الحَسن السِّبط (ع) في حروبِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) الثَّلاثة فكانَا يتقدَّمان الصُّفوف ويقتحِمان الأَهوال فلم يكونا ليوفِّرا شيئاً من شجاعتهِما وعزيمتهِما وجَّدَهِما في قتالِ العدوِّ حتَّى قالَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) (امْلِكُوا عَنِّي هَذَا الْغُلَامَ لَا يَهُدَّنِي فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ [يَعْنِي الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (ع)] عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّه (ص)).

 أَوليسَ هو الإِسلام الذي تنازلَ من أَجلِ إِعلاءِ كلمتهِ وتثبيتِ حاكميَّتهِ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) عن كُلِّ حقوقهِ الشَّخصيَّة وأَكثر حتَّى قالَ (فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص) فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلَامَ وأَهْلَه أَنْ أَرَى فِيه ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِه عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وزَهَقَ واطْمَأَنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَهَ) وقولهُ (لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي ووَ اللَّه لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِهِ وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِهِ) و (فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً)؟!. 

 فلماذا إِذن خرجَ الحُسين السِّبط (ع) على [حاكميَّةِ الإِسلام] عندما اعتلى الخلافةَ يزيد بن مُعاوية؟!.

 هل أَنَّهُ (ع) إِنقلبَ على ما ضحَّى من أَجلهِ فقُتِلَ بسيفِ جدِّهِ، كما يشيعُ الأَمويُّونَ؟! أَم أَنَّهُ غيَّر رأيهُ في الحاكميَّة؟! أَو حصلَ لهُ بِداءٌ؟! أَم أَنَّهُ (ع) ندمَ على تضحياتهِ السَّابقة؟! أَم ماذا؟!.

 أ/ إِنَّ حاكميَّةَ الإِسلام تتجلَّى حصراً بالعدلِ فهوَ مدارُ الخلافةِ والسُّلطةِ والإِدارةِ والعدلُ وهوَ لا يتحقَّقُ بخليفةٍ أَو حاكمٍ أَو مسؤُولٍ فاسدٍ ظالمٍ متهتِّكٍ يسحق حقُوقَ الرعيَّةِ ولا يخالف الله فيهِم! فإِذا لم يتحقَّق العدلُ في مُمارسةِ الحاكميَّةِ فلا معنى لاعتبارِها شيءٌ من الدِّينَ أَبداً.

ب/ إِنَّ كُلَّ ما جاءَ بهِ رسولُ الله (ع) وما ضحَّى من أَجلهِ كانَ الهدفُ منهُ هو تحقيق كَرامة الإِنسان التي تتجلَّى في الحريَّةِ وتحديداً حريَّة الفِكر والرَّأي والإِختيار (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فإِذا لمسَ المُجتمعُ كُلَّ ذلكَ على أَرضِ الواقعِ وفي حياتهِ اليوميَّةِ وفي العلاقةِ بينَ الرَّاعي والرعيَّة قالَ؛ هذهِ هيَ حاكميَّةُ الإِسلام، وعكسَها حاكميَّة الشَّيطان الرَّجيم القائِمة على الغشِّ والتَّدليسِ والكذبِ وخلفِ الوعدِ والظُّلمِ والعبوديَّةِ وسحقِ حقوقِ الرعيَّةِ والإِحتكارِ والتَّدليسِ والتستُّرِ بالدِّينِ والمُقدَّسِ.

 ج/ تأسيساً على ذلكَ فإِنَّ الحُسين السِّبط (ع) لم يخرُج على [حاكميَّة الإِسلام] عندما رفضَ البَيعة للطَّاغية يزيد وإِنَّما رفضَ [الحاكميَّة المُتستِّرة بالدِّين] والمُتجلبِبة بلباسِ قيمِ السَّماءِ زوراً وبُهتاناً.

 ولو كانَ (ع) قد قبلَ بهذهِ الحاكميَّة المُزيَّفة لشرعنَ للأُمَّةِ [حاكميَّة الشَّيطان المُتلبِّس بلباسِ الرَّحمن] ولشرعَن لها القَتل باسمِ الدِّين وتكميمِ الأَفواه باسمِ الدِّين وفرْضِ البَيعة وإِجبار النَّاس على نوعٍ معيَّنٍ من الإِختيارِ باسمِ الدِّينِ ولشرعنَ عدم جَواز الخرُوج على [خليفةِ المُسلمينَ] حتَّى إِذا وُجدَ يزني في محرابِ الصَّلاةِ أَو يُصلِّي بالنَّاسِ ثمِلاً سكراناً، كما ذهبَ إِلى ذلكَ الكثير من [فُقهاء الأُمَّة].

 لا أَدري كيفَ كان ينتظِر البعض من الحُسين السِّبط (ع) مُمارسة عمليَّة [خِداع الذَّات] فيغضَّ النَّظر عن كُلِّ ذلكَ ويُبايع الطَّاغية الأَرعن ويتمثَّل بالقَولِ المشهور [حشرٌ مع النَّاسِ عيدٌ] ويسلِّم أَمرهُ للحاكميَّةِ الجديدةِ [المُزوَّرة] ويعيشَ أَيَّامهِ وحياتهِ كما يعيش الآخرونَ؟!.

 لقد تجلَّت مسؤُوليَّة الحُسين السِّبط ع في حمايةِ الإِسلام كدينٍ وقِيمٍ ومبادئ وأَخلاق وسلوكيَّات صالِحة من العبثِ والإِتِّجارِ غيرِ المَشروعِ بالمُقدَّسِ حتَّى إِذا جاءَت على حسابِ [حاكميَّتهِ] المزعومةِ لأَنَّها مُزيَّفةٌ يُمارسها الدجَّالة والحيَّالة.

 إِنَّ الدِّفاع عن القِيمِ أَهم وأَعظم من الدِّفاع عن [الحاكميَّةِ] وعن [الخلافةِ] ولذلكَ لاحظنا أَنَّ أَميرَ المُؤمنينَ (ع) يتنازل عن الخلافةِ مرَّتَينِ من أَجلِ حمايةِ القِيم والمبادِئ.

 وكذلكَ فعلَ الحسنُ السِّبط (ع).

 أَمَّا الحُسين السِّبط (ع) فلَم يضحِّي من أَجلِ حاكميَّةِ الإِسلام، أَيّاً كانت، وإِنَّما من أَجلِ قيَمهِ ومبادئهِ والتي تقِف على رأسِ أَولويَّاتِها [العَدل] ولذلكَ قالَ (ع) [مثلي لا يُبايِع مِثلهُ] فهوَ (ع) رسمَ منهجاً.

 وعندما تتعارَض الحاكميَّة مع القِيم فالأَولويَّة للثَّانية وعندَها تصبَح قيمة الأُولى [عفطةُ عنزٍ] أَو [شِسعُ نعلٍ] أَو [ورقةً في فمِ جرادةٍ تقضِمُها] كما يصفُها أَميرُ المُؤمنينَ (ع).

 وهذا هو الفَرق الجَوهري بينَ مدرسةِ أَهل البيت (ع) ومدرسة الخِلافة! بينَ مَن يرى في الوحي [ديناً] وبينَ مَن يكفُرُ بالوحي قائلاً [تلاقفُوها يا بني أُميَّة تلاقُفَ الصِّبيانِ للكُرةِ فالذي يُقسِمُ بهِ أَبو سُفيان لا جنَّةَ ولا نارٍ ولا حشرٍ ولا قيامةَ وإِنَّما هوَ المُلكُ].

اضف تعليق