إن إصلاح الخلل لا يتحقق بمجرد تغيير الأشخاص، بل بتغيير الآليات، فمن الضروري ترسيخ استقلالية المدير وفق معايير الكفاءة والمهنية، وإعادة بناء العلاقة بين المحافظ والمدير على أساس التكامل لا التبعية، كما ينبغي أن تستند القرارات الإدارية إلى دراسات وخطط لا إلى قناعات فردية متغيرة...
في العديد من المحافظات العراقية، تتكشف ظاهرة إدارية خطيرة بدأت تلقي بظلالها على أداء الدوائر الحكومية ومستوى الخدمات المقدمة للمواطنين، تتمثل هذه الظاهرة في فرض وصاية غير معلنة على بعض مديري الدوائر من قبل أعلى مسؤول تنفيذي في المحافظة، بحيث يتحول المدير من قائد لمؤسسته إلى تابع يُنفذ رؤى وأفكار ذلك المسؤول دون نقاش، حتى وإن كانت غير مناسبة لطبيعة العمل أو مخالفة للقانون.
قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مجرد ممارسة إدارية، إذ إن المحافظ وفق الأنظمة الإدارية يمتلك سلطة الإشراف والمتابعة والتوجيه، لكن الفارق شاسع بين الإشراف المهني وبين التوجيه القسري الذي يجعل المدير أسيرا لقرارات تُفرض عليه بسلطة المنصب، لا بمنطق الإدارة أو مصلحة المؤسسة.
مما يجعل العديد من مديري الدوائر تحت ضغط مزدوج، فهم مطالبون بتحقيق نتائج وتحسين الخدمات، وفي المقابل مقيدون بحدود رؤى المسؤول الأعلى التي قد لا تنسجم مع تخصصهم أو احتياجات دوائرهم، فبعض هؤلاء المديرين يجدون أنفسهم في موقع هش؛ ورفض التعليمات يعني خسارة المنصب وربما استهدافهم إداريا، بينما تنفيذها قد يؤدي إلى إضعاف أداء الدائرة أو الإضرار بسمعتها أمام الجمهور.
ماذا يعني خسارة بعض المدراء لصلاحياتهم؟
خسارة المدير لصلاحياته الأساسية، تعني تلقائيا خسارة الدائرة لقدرتها على التطوير، فالإدارة ليست فقط أوامر تُنقل من مكتب إلى آخر، بل رؤى وخطط تعتمد على دراسات متخصصة وتجارب ميدانية، وحين يُفرض على المدير تنفيذ قرارات غير منطقية، يصبح شاهدا على تفكك منظومته الإدارية دون أن يستطيع فعل شيء.
ولا يتوقف الخلل عند هذا الحد، بل يمتد للموظفين في تلك الدوائر، فهم أول من يشعر بالخلل، إذ يفقدون الثقة بقيادتهم الإدارية، فتتراجع الروح المعنوية وتنخفض مستويات الالتزام، بينما تتزايد المساحات التي يتدخل فيها غير المختصين، وفي النهاية يدفع المواطن الثمن الأكبر نتيجة تراجع جودة الخدمات وتباطؤ إنجاز معاملاته.
المخاوف الأكبر التي تحوم حول هذه الظاهرة تتمثل في ما تُنتجه من بيئة خصبة للفساد الإداري، وهنا تكون القرارات مُتخذ بناء على مصالح شخصية أو توجهات غير مهنية تُصبح بعيدة عن رقابة القانون، خاصة مع تهميش دور الهيئات الرقابية وتقويض استقلالية المدير.
وفي ظل غياب آليات قانونية فعالة لمساءلة المحافظ او مسؤول الوحدة الادارية وتقييم أدائه الإداري بموضوعية، يزداد نفوذ السلطة الفردية على حساب مبدأ اللامركزية الذي تم إقراره ليعزز كفاءة العمل ويمنح المحافظات مرونة إدارية لا أن يخلق طبقة سلطوية جديدة.
ورغم أن التشريعات تمنح المحافظ صلاحية الإشراف على الدوائر وإدارة شؤون المحافظة بما ينسجم مع المصلحة العامة، إلا أن الحدود الفاصلة بين الإشراف البناء والسيطرة المطلقة تبدو مفقودة أحيانا، المدير الذي يفترض أن يكون صاحب القرار الأول داخل مؤسسته، يتحول إلى مجرد ناقل لتوجيهات تُملى عليه، فيتجمد دوره القيادي ويتراجع تأثيره الإداري، ليبقى متحسبا لأي اعتراض قد يفسر على أنه تمرد أو عدم تعاون.
هذا الوضع يخلق بيئة إدارية مشوهة، إذ يجد المدير نفسه أمام معادلة صعبة، تنفيذ الأوامر التي يتلقاها من دون نقاش مهما كانت غير مناسبة، أو المخاطرة بإزاحته من منصبه وربما تشويه سمعته المهنية، والخسارة هنا ليست خسارته الشخصية فحسب، بل خسارة المجتمع لطاقات قيادية يمكن أن تسهم بفعالية في تحسين الخدمات وتطوير الأداء المؤسسي.
ويبقى السؤال: ما الحل أمام هذا الواقع؟
إن إصلاح الخلل لا يتحقق بمجرد تغيير الأشخاص، بل بتغيير الآليات، فمن الضروري ترسيخ استقلالية المدير وفق معايير الكفاءة والمهنية، وإعادة بناء العلاقة بين المحافظ والمدير على أساس التكامل لا التبعية، كما ينبغي أن تستند القرارات الإدارية إلى دراسات وخطط لا إلى قناعات فردية متغيرة، وأن يُعاد الاعتبار لدور الرقابة القانونية والمؤسساتية كي لا تتحول السلطة المحلية إلى سلطة اشتراطية تحكمها المزاجية.



اضف تعليق