لماذا لا يدرك الآباء هذه المخاطر، حيث الكثير منهم لا يهتم ولا يستمع إلى الآثار التي ستلحق بأولاده، لأن الأب أو الأم هم بأنفسهم مدمنون على استخدام الهواتف الذكية، لذلك يضعون رؤوسهم في الرمال، ويهملون هذه المشكلة. من حق أطفالنا علينا أن ينمو النمو السليم وأن يعيشوا حياة صحية متوازنة...

في حلقة من برنامج "محطات" على قناة الأنوار الفضائية، ناقش الشيخ مرتضى معاش واحدة من أهم القضايا المعاصرة المرتبطة بتنشئة الطفل في العصر الرقمي، وهي قضية استخدام الإنترنت والمخاطر المرتبطة به. وقد سلّط الضوء على جملة من الإشكاليات التربوية والنفسية التي تهدد الأطفال بسبب التعرّض غير المنضبط للوسائط الرقمية، مؤكدًا أن المشكلة تبدأ أولًا من داخل البيت، حيث يقع الكثير من الآباء في فخ الإهمال بسبب غرقهم الذاتي في عالم الهواتف الذكية.

وقد عبّر عن ذلك قائلًا:

"لماذا لا يدرك الآباء هذه المخاطر، حيث الكثير منهم لا يهتم ولا يستمع إلى الآثار التي ستلحق بأولاده، لأن الأب أو الأم هم بأنفسهم مدمنون على استخدام الهواتف الذكية، لذلك يضعون رؤوسهم في الرمال، ويهملون هذه المشكلة."

هذا التشخيص يعكس واقعًا اجتماعيًا واسعًا بات فيه الأهل متساوين مع أبنائهم في الانشغال الرقمي، ما يضعف الرقابة الأبوية ويؤدي إلى اختلالات في التوجيه والاحتواء. ولأن الإسلام يمنح الأسرة مسؤولية تربوية عظيمة، فقد استشهد الشيخ بوصية الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) في "رسالة الحقوق"، حيث يقول:

"وحق ولدك أن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه."

وانطلاقًا من هذا الأساس، يؤكد الشيخ أن من حق أطفالنا علينا أن ينشأوا في بيئة آمنة تثري معارفهم وتطور مهاراتهم، ومن حقهم أن ينمو النمو السليم وأن يعيشوا حياة صحية متوازنة، وهذا لا يتحقق إلا بالوعي وبذل الجهد والوقت للتعرف على بيئتهم الرقمية وضبطها وتوجيهها التوجيه الأمثل.

لكن لفهم خطورة هذه البيئة الرقمية، ينبغي التعرف أولًا على مراحل النمو الجسمي والنفسي والمعرفي والاجتماعي التي يمر بها الأطفال، إذ أن لكل مرحلة خصائصها التي تتطلب نمطًا معينًا من التفاعل والبيئة المحيطة:

المرحلة الأولى، المرحلة الحسية الحركية، تستمر منذ الولادة وحتى حوالي عامين، يتعلم الأطفال من خلال حواسهم وأفعالهم، ويطورون مفاهيم أساسية مثل ثبات الأشياء، وفهم أن الأشياء تستمر في الوجود حتى عندما لا يمكن رؤيتها. يُهيمن على تفكير الطفل مظهر العالم، لا واقعه. فهو لا يزال غير قادر على التفكير المنطقي.

المرحلة ما قبل العملياتية، من سن سنتين إلى سبع سنوات، يبدأ الأطفال في استخدام الرموز واللغة ولكنهم يواجهون صعوبة في التفكير المنطقي. قد يكونون أنانيين، وهذا يعني أنهم يجدون صعوبة في رؤية الأشياء من وجهات نظر الآخرين.

المرحلة العملية الملموسة، بين سن السابعة والحادية عشرة، يصبح الأطفال أكثر منطقية في تفكيرهم، يبدأون بالتفكير في أفكار ومشاعر الآخرين بشكل أكثر واقعية.

المرحلة العملياتية الرسمية، بدءًا من مرحلة المراهقة فصاعدًا، يطور الأطفال القدرة على التفكير المجرد وحل المشكلات الافتراضية.

تتأثر هذه المراحل بعوامل متعددة منها النضج البيولوجي، التفاعل مع البيئة، الخبرات الاجتماعية، والسعي الدائم للتوازن بين ما يعرفه الطفل وبين ما يعيشه من تجارب واقعية.

ومن هنا، يُستخلص أن الطفل منذ سنته الأولى يحتاج إلى الاحتكاك مع الأشياء ومعرفة العالم الحقيقي، وهذا التفاعل الواقعي هو ما ينسجم مع تطوره البيولوجي وتكيفه النفسي وخبرته الاجتماعية. إلا أن الأجهزة الرقمية، بكل أشكالها، باتت تشكل معوقًا رئيسيًا أمام هذا النمو الطبيعي.

وفي شرح أسباب ضياع النمو الطبيعي في العصر الرقمي، بيّن الشيخ أن الضياع لا يكون فجائيًا، بل تدريجيًا، ويبدأ حين تفقد البيئة تفاعليتها وحيويتها. فدماغ الطفل مصمم لكي ينمو عبر التحفيز الاجتماعي، عبر اللعب والتجريب والاكتشاف، أما الانغماس في الوسائط الرقمية منذ الطفولة فقد يحدّ من هذا التفاعل، مما يؤدي إلى بطء في نمو الدماغ وتراجع عام في النمو العقلي والعاطفي.

وقد أشارت دراسات علمية إلى أن ساعة واحدة إضافية يوميًا على الأجهزة الذكية قد تؤدي إلى ارتفاع مستويات الاندفاع، وهو ما ينعكس في سلوكيات مثل الغضب السريع، واتخاذ قرارات مفاجئة دون تفكير، وانعدام الصبر. وتتسبب الوسائط الرقمية، خاصة عند استخدامها بدون إشراف أو توجيه، في تقليص فرص التعلم العميق والتفكير النقدي، وتحويل الطفل إلى مستهلك سلبي لمحتوى سطحي عابر، مما يعوق نموه الذهني ويضعف قدراته على التمييز والتحليل والاستنتاج.

وأضاف أن غياب الطفولة الطبيعية، التي تمثل التربية باللعب وفهم العالم الخارجي، يؤدي إلى حرمان الطفل من خبرات جوهرية، مثل التكيف، التحمل، الصبر، مواجهة الألم والفشل، وكل ما يكوّن جهاز المناعة النفسي. وشبّه ذلك بالأشجار الصغيرة التي تحتاج إلى الرياح لتنمو، فالرياح تحرك الجذور وتجعلها أكثر تماسكًا، وهكذا الطفل يحتاج إلى التحدي ليتقوّى، لا إلى العزلة والراحة المطلقة التي توفرها له الأجهزة الذكية.

كما أشار إلى أن التجربة هي الأساس في النمو العاطفي، وليس المعلومات، فالنمو لا يحدث عبر التلقين وإنما عبر خوض التجارب والتفاعل مع الواقع. ومن خلال التجربة يتعلم الطفل التفاوض، إدارة النزاعات، ضبط المشاعر، الانتماء إلى الجماعة، فهم الأدوار الاجتماعية، والتمييز بين الانتصار والهزيمة، وهذه جميعها تغيب في عالم الشاشات.

أما فيما يخص تأثير الأجهزة الرقمية على النمو المعرفي، فقد أشار الشيخ إلى أن البعض كان يتوقع أن هذه الوسائط ستُطوّر الذكاء البشري، إلا أن العكس هو ما حصل، حيث أصبح الإنسان أكثر سطحية. فالوسائط الرقمية، بدلاً من تطوير اللغة، تؤخرها، خاصة عند الأطفال دون سن الثانية. وأدى اختلال النمو المعرفي إلى غياب الإدراك، الجمود الفكري، ومن ثم ما سماه الشيخ "الغباء والسطحية والتفاهة". وأوضح أن الاستهلاك السلبي للوسائط – مثل التصفح العشوائي لوسائل التواصل أو مشاهدة مقاطع الفيديو دون وعي – يؤدي إلى قصر في فترات الانتباه، وانخفاض التركيز، وتراجع القدرة على معالجة المعلومات. هذه البيئة المفرطة في التحفيز ترهق العقل الصغير، وتؤدي إلى استنزاف الاحتياطي المعرفي بمرور الوقت.

ووفقًا لدراسات علمية حديثة، فإن التعرض المكثف للهواتف الذكية والإنترنت، إلى جانب التعرض المنخفض لأجهزة الكمبيوتر والاعتماد الكبير على الشاشات الترفيهية، ارتبط بارتفاع مؤشرات الاندفاع وعدم المرونة الإدراكية، خاصة عند الفتيات. وأوضح الشيخ أن السلوك الاندفاعي هو اتخاذ قرارات مفاجئة دون تفكير، مع الغضب المفرط ونفاد الصبر، وهذه أعراض ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بعدد ساعات الاستخدام.

وأضاف أن التفاعلات الاجتماعية تلعب دورًا أساسيًا في تنظيم الانفعالات والنمو السلوكي، ولكن الوسائط الرقمية، حين تهيمن على علاقة الطفل بوالديه، تؤدي إلى تراجع قدرته على التركيز وضبط انفعالاته. وبالتالي، تظهر مشكلات سلوكية داخلية وخارجية، كالعنف والانغلاق وفقدان السيطرة العاطفية.

أما على صعيد المحتوى المرئي، فقد تناول الشيخ تأثير أفلام الكارتون، معتبرًا إياها سيفًا ذا حدّين، فهي من جهة تحفّز الخيال، ومن جهة أخرى تنقل رسائل وقيمًا قد تكون مدمّرة. فالرسوم الكرتونية قد تنقل رسائل تتعارض مع المبادئ الأخلاقية والثقافية، ما يؤدي إلى صراع داخلي لدى الطفل. وقد لوحظ أن بعض الأطفال يتبنون لهجات وسلوكيات شخصيات كرتونية، بل إن بعض الأهالي يذهبون بأبنائهم إلى الاستشاريين النفسيين بسبب تقمصهم الكامل لشخصيات الكرتون، بما يشمل اللغة، اللباس، السلوك وحتى المشاعر.

وقد خلُص بحث علمي إلى أن "الأطفال يحتاجون إلى الحماية من الآثار السلبية المحتملة للبيئة الرقمية". وأشار البحث إلى أن الاستخدام المفرط للهواتف الذكية وممارسة تعدد المهام الإعلامية يرتبط ارتباطًا إيجابيًا بالاندفاعية وجمود الإدراك، وبصورة عكسية مع القدرة على اتخاذ القرار، ما يجعل الطفل معرضًا للتشتت الدائم وفقدان البوصلة الفكرية.

وفي ختام الحلقة، شدد الشيخ مرتضى معاش على أن مواجهة هذا التحدي التربوي يتطلب وعيًا جديدًا، حيث لا يكفي منع الأطفال من استخدام الوسائط الرقمية، بل يجب أن تتوفر بدائل تعليمية وتفاعلية تعيد التوازن لنموهم، وتنقلهم من مجرد الاستهلاك إلى النقد، ومن العزلة الافتراضية إلى الانخراط في العالم الخارجي، ومن الهشاشة إلى القوة النفسية والعقلية.

وحماية الأطفال من هذه المخاطر الرقمية هي مسؤولية مشتركة تبدأ من الأسرة ولا تنتهي عند المؤسسات التربوية. فالمطلوب اليوم ضبط استخدام التكنولوجيا وتوجيهها، مع تمكين الطفل من التفاعل الواعي والنقدي مع ما يراه ويستخدمه. وحذّر من أن البيئة الرقمية المعاصرة إذا لم تُفهم وتُدار بوعي، فإنها قد تفرز جيلاً هشًا في تفكيره ومشاعره، متصلاً بانغماس وغرق في العالم الافتراضي ولكن منفصلًا عن ذاته وجذوره. ولذا، فإن التربية في العصر الرقمي تستلزم جهدًا إضافيًا لتعليم الأطفال كيف يواجهون هذه البيئة بدلًا من أن يُبتلعوا فيها.

لذلك فإن التربية الرقمية ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية في هذا العصر.

لمشاهدة الحلقة الكاملة:

https://youtu.be/2TKGSvOSaRY


اضف تعليق