q

في الشوارع والساحات، في مراكز المدن وأحيائها السكنية، تقام الولائم العاشورائية، في البيوت وفي المواكب الحسينية، في السابق كانت (القيمة والتمن/ الرز) هي السائدة على انواع الأطعمة الاخرى، وكذلك (الزردة) وهي خليط من الرز والسكريات والجوز واللوز والدارسين، أما (الآش) فهو طعام ذو مذاق جميل تجتمع فيه حبوب من انواع متنوعة، (كالحمص والرز والشعرية والبزاليا والباقلاء) وغيرها، أما اليوم فقد دخلت جميع الأطعمة الى المائدة الحسينية.

يقول الناس دائما، من لا يفقد الشيء لا يعرف قيمته، ومن لا يفقد الطعام لا يعرف ماذا يعني الجوع، الفقراء هم الذين يمكنهم وصف الجوع بطريقة عاطفية صادقة ومؤلمة، أما (الشبعان)، الغني فلا يمكنه وصف الجوع وآلامه مهما كان خياله واسعا وموهبته غنية، هذه الاطعمة العاشورائية الحسينية، لها قيمتها عند الجميع، حتى الاغنياء لا يستغنون عنها، انهم دائما يطلبون (زاد ابو علي) للتبرك، والتلذذ بالطعم ليس المذاق الحسي له، وانما المذاق الروحي.

فمن يأكل زاد ابو علي، يطلب مراده اثناء تناول الطعام، وهكذا يحقق هدفين في وقت واحد، الشبع وطلب المراد، ولكثرة الموائد الحسينية في عاشوراء، تجد البيوت تطبخ الطعام بالتناوب، ويشترك النساء في تهيئة هذه الولائم، اما اذا كان الطبخ كبيرا، ويحتوي على عدد كبير من قدور (التمن والقيمة)، فيتصدى لها الرجال، وهم في الغالب من الماهرين في الطهي.

وانا أدور على بيوت الحي الذي اسكن فيه، اسمع بعض النسوة يتحادثن فيما بينهن، (أنا سأكتفي بزاد ابو علي)، (امرأة اخرى تقول (مصاريف البيت أقل من السابق)، وهناك بعض الفقراء يستفيدون بشكل فعلي من هذه الولائم، كما لاحظت ذلك بنفسي، وهذه تشكل صورة من صور التكافل المجتمعي، وإن كانت تمثل عادة متأصلة ومنتشرة بين العائلات، منذ أزمنة بعيدة.

تراث حسيني مستمر

شبكة النبأ المعلوماتية زارت عددا من البيوت التي أعدّت ولائم عاشورائية، للزوار الكرام ولأهل الحي الذي يسكنون، وكذلك للمارة واصحاب السيارات وما شابه، فمائدة ابي عبد الله تسع الجميع، ومفتوحة لكل من يطلب الطعام.

أم زينب (50 سنة)، كانت تقف في باب بيتها المفتوح، تشرف على فتيات يقمن بتوزيع صحون (الزدة) على بيوت الحي، حدثتنا عن كيفية اعداد هذه الوليمة قائلة: منذ عشرات السنين ونحن نقوم بطبخ (الزردة) وقد أخذنا هذه العادة من أهلنا وعوائلنا. طلبت منها ان تصف لي خطوات الطبخ بالتفصيل، فقالت: او خطوة اقوم بتحضير مواد الطبخ الغذائية قبل ايام، والأواني والقدور التي اطبخ بها، فقد احتاج بعضها من بيوت الجيران، الخطوة الثانية اقوم بتبليغ نساء الجيران للحضور وتقديم المساعدة، فتبدأ بالطبخ منذ الليل ويتم تجهيزه عند الفجر، ومع بداية النهار تبدأ حملة التوزيع على بيوت الحي بيتا بيتا، ونقوم بارسال قدر كبير الى مركز المدينة للزوار الكرام، وعندما يطلب مني الجيران الحضور للمساعدة اذهب فورا.

اذن هو نوع من التعاون المتبادل بين النساء، خاصة انني رأيت (الصواني) فوق رؤةس الفتيات والنساء وهن يقمن بتوزيع الطعام على البيوت بشكل متبادل، وتبادر لذهني ان هذا العمل هو تطبيق لمبدأ التكافل الاجتماعي الذي يدعو إليه الاسلام دائما، لمقارعة الفقر والجوع.

في ركن الشارع الذي نسكنه، كان هناك موكب حسيني كبير، تصطف امام خيمته قدور كبيرة وكثيرة يلتهب تحتها الجمر وتشتعل النيران، وتفوح منها رائحة الرز والقيمة، من بعيد رأيت السيارات المارة في الشارع الرئيس تتوقف قرب الموكب، ويترجل السائق حاملا قدرا او قدرين، ولا يغادر المكان إلا وقد ملأ القدرين احدهما بالرز (التمن) والثاني (بالقيمة، نوع من المرق يتم طبخه في المناسبات الدينية الشيعية).

إطعام الفقراء والأيتام

في بيت (أم عبد الله/ امرأة كبيرة بالسن)، رأيت نساء كثيرات، يتشحن بالسواد، وعندما دخلت البيت رأيت قدور منصوبة على قواعد حديدية والنار تتصاعد وتلتهب تحت القدور، بقيت في بيت ام عبد الله اتحدث معها عن اعداد طعام أو (زاد ابو علي)، اي ولائم الامام الحسين عليه السلام، سألتها منذ كم سنة تقوم بهذه الوليمة الحسينية، فقال: منذ ان كانت والدتي على قيد الحياة (يرحمها الله) وكنت طفلة في العاشرة اقوم بمساعدتها، وحتى بعد ان تزوجت كنت احضر لبيت اهلي واساعد امي في مثل هذه الايام، وعندما توفيت، اخذت عنها هذا الواجب الحسيني.

وعندما سألتها هل حصل أنك لم تطبخي في احدى السنوات، فقال: ابدا ابدا، لا اتذكر أنني تأخرت عن ذلك ولو مرة واحدة، حتى عندما امرض او انشغل لا يمكن أن يعيقني ذلك عن تقديم وليمة عاشوراء، انه نذر اخذته على نفسي حتى الموت.

وعندما سألت احدى الحاضرات في بيت أم عبد الله للمساعدة، وهي امرأة شابة قوية: هل يحتاج الناس الى هذا الطعام وهل يستفيدون منه؟؟ استغربت سؤالي وقالت: (الشبعان ما يدري بالجوعان) في اشارة الى أن هناك من الفقراء من يحتاج الى هذا الطعام، واضافت قائلة.. انا اعرف عائلات ايتام لا يطبخون طيلة ايام عاشوراء، وخلال ايام هذين الشهرين (محرم وصفر)، لا يجوعون كما في الشهور الاخرى.

فعلا هناك ناس لا تعرف معاناة الايتام، والفقراء، والجائعين، فمن لا يحتاج الى طعام غيره، بسبب وفرة الطعام لديه، ربما لا يستطيع ان يقدر مدى فوائد الولائم الحسينية في هذه الايام للفقراء والايتام على وجه الخصوص.

اخيرا، سألت السيد ابو احمد وهو من الرجال المعروفين بتدينهم والتزامهم في الحي، كذلك معروف بتعاونه مع الجميع، سألته عن رأيه بالولائم العاشورائية فقال: انه (زاد الحسين) له فوائد لا تحصى، ليس تحقيق الشبع ومقارعة الجوع فقط، وانما الشعور بالأمان وان الدنيا بخير، وان الناس يساعدون غيرهم، ويشعرون بعضهم ببعض، ليس الهدف في الطبخ فقط، وانما ما بعد الطبخ والتوزيع ووصول الطعام الى الناس، انها حالة من التعاون بين الناس يحتاجها المسلمون اليوم في كربلاء المقدسة وفي العراق وفي بلاد المسلمين اينما كانوا، فطعام ابي عبد الله يمثل حاجتنا للتعاون مع بعض دائما.

اضف تعليق