المجتمع الحداثي يتوفر على آليات خاصة في الرقابة والتنميط، آليات جديدة لم يسبق أن توافرت لمجتمع من قبل. فالنظام المجتمعي الحداثي هو بنية تقنية، تشتغل فيه الآلة الصماء من أجل تحقيق الوفرة الاستهلاكية، الإنسان قد اصطنع التقنية من أجل السيطرة على الطبيعة، فإنها انتهت إلى السيطرة عليه...
بقلم: د. الطيب بوعزة

في تحليله المتميز للمجتمع الحداثي يخلص هربرت ماركيوز في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد) إلى أن هذا المجتمع هو نمط جديد في الاستبداد، إنه مجتمع بلا معارضة! ولا يقصد ماركيوز بالمعارضة هنا مدلولها السياسي المعهود، بل هي أطروحة أوسع وأشمل من أن تختزل في الحقل السياسي، إنها دالة على أفول الوعي النقدي وانتفائه من كل الصعد المجتمعية سياسية كانت أو فكرية.

 فالمجتمع الصناعي الحداثي انتظمت فيه آليات سلطوية، انتهت إلى كبح الاختلاف وإلغاء إمكانية التغيير؛ حيث أنه بمؤسساته وقيمه الثقافية يشتغل كمنظومة استلابية فينتهي إلى صياغة إنسان ذو بعد واحد، أي إنسان فقد القدرة على التفكير النقدي، وسقط في التنميط والاتباع.

وهذا هو معيار إفلاس المجتمع الحداثي، أي أنه أفلس في أهم نتاجه (الإنسان)، الذي فقد القدرة على تنمية خصوصيته وتميزه وفرادته، وبذلك فقد إنسانيته واستحال إلى مجرد رقم مرصوف بجوار جملة أرقام أخرى، وترس داخل في آليات المجتمع الصناعي الحداثي يدور ويلف في المجال المرسوم له سلفا دون قدرة على الانفلات والتحليق.

فإذا كانت إنسانية الكائن تتحدد في اقتداره العقلي، وإذا كان هيجل قد حدد وظيفة العقل في كونه (القدرة على الرفض والنفي)، فإن هذه القدرة لم تعد تتوفر في إنسان المجتمع الحداثي؛ لأن هذا المجتمع قد عطل فيه هذه القدرة بوسائل تصريفية تجعل الرفض لما هو سائد ليس فقط سلوكا غير مقبول، بل سلوكا غير معقول!!

يقول ماركيوز: (إننا لنواجه هنا واحدا من أكثر مظاهر المجتمع الصناعي المتقدم مدعاة للأسف: الطابع العقلاني للا عقلانية... بحيث أن كل تناقض يبدو لا عقلانيا وكل معارضة مستحيلة!) إن إفلاس هذا المجتمع هو أن المثال أصبح فيه ملابسا للواقع، بمعنى أن الأمل أصبح مرادفا للسائد، وبالتالي فكل فكرة تغيرية هي مجرد يوتوبيا، أي فكرة حالمة غير قابلة للاستنزال إلى الواقع.

يرى ماركيوز أن ذلك راجع إلى كون المجتمع الحداثي يتوفر على آليات خاصة في الرقابة والتنميط، آليات جديدة لم يسبق أن توافرت لمجتمع من قبل. فالنظام المجتمعي الحداثي هو بنية تقنية، تشتغل فيه الآلة الصماء من أجل تحقيق الوفرة الاستهلاكية، وإذا كان الإنسان قد اصطنع التقنية من أجل السيطرة على الطبيعة، فإنها انتهت إلى السيطرة عليه هو ذاته، وماركيوز هنا لا ينتهي في تحليله للمنظومة التقنية إلى رفضها، ولكنه يؤكد أن ثمة طرقا أخرى ممكنة لاستخدامها والعيش معها وبها، دونما سقوط في المزالق المدمرة التي نشهدها اليوم، من تلويث للبيئة وتدمير لمقومات الحياة، لكن هذه الطرق الأخرى الممكنة والمغايرة لما هو سائد هو ما يعمل المجتمع الصناعي على استبعاده وجعله من اللا مفكر فيه!

ثم إن الآلية التقنية بمنطق اشتغالها البضائعي انتهت إلى إفساد فعلي للكائن الإنساني، فهي تستهدف صناعة (إنسان السوق)، وذلك بتمليكه حاجات زائفة تجعله يلهث دوما من ورائها. إنه نظام جديد من أنظمة استلاب الكائن، يقول ماركيوز: (فالناس يتعرفون على أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في سيارتهم وجهازهم التلفزيوني الدقيق الاستقبال، وفي بيتهم الأنيق وأدوات طبخهم الحديثة، إن الآلية التي تربط الفرد بمجتمعه قد تبدلت هي نفسها، والرقابة الاجتماعية تحتل مكانها في قلب الحاجات الجديدة التي ولدتها". ولذا فحرية الكائن هي أساسا تحريره من الحاجيات الزائفة التي سيطرت عليه وكبلت وعيه وذوقه وسلوكه، وحولته بلغة إيريك فروم إلى (كائن استهلاكي) مشدود إلى الرغبة في امتلاك الأشياء.

بيد أن السؤال الذي يطرح هو كيف أمكن لهذا المجتمع أن يجعل هذه الحاجات الاستهلاكية الزائفة حاجات مرغوبة ومطلوبة؟ هل يمكن أن نقول بلغة الاقتصاديين إن هذه المنتوجات الاستهلاكية التي ينعتها ماركيوز بالزائفة هي مجرد عرض استجاب لطلب، أي أنها نتاج لرغبة موجودة؟

إنها حسب ماركيوز لا تعبر عن رغبة حقيقية، بل رغبة زائفة، يفرزها المجتمع الحداثي بوسائل الإشهار والإعلام والسينما...أي بوسائل تنميط الذوق، وذلك بخلق ذوق عام ومعمم، مثلما تخلق هذه الوسائل التنميطية في الحقل السياسي رأيا عاما معمما.

 والتعميم آلية استلابية خطيرة يمتاز بها المجتمع المعاصر، فآليات التعميم عنده تمارس وظيفة المراقبة والمحافظة حتى يظل هذا المجتمع محفوظا من أي تغيير جذري. وهكذا تتحول الحرية الفردية إلى مجرد شعار يتم استدخاله في صلب المنظومة الإنتاجية لاستثماره وتوظيفه، فهي حرية مقبولة، لكن بشرط أن تعمل في اتجاه نماء المردودية والإنتاجية.

 وهذا واضح في واقع الإنسان المعاصر، (إنسان البعد الأحادي)، حيث يظن نفسه حرا إذ يختار بين أشياء عديدة ولا يحس بأن اختياره هذا مضبوط سلفا، ومحدد على نحو يستبعد أي تخيل لبديل فعلي للواقع السائد ولنمطه في التفكير والعيش. وبذلك يصح أن نقول: إن حرية الإنسان في المجتمع الحداثي تشبه حرية العبد في اختيار أسياده! فحتى حقل الرغبة استدخله هذا المجتمع ضمن منظومته، حيث طور آليات صناعة الرغبة وتنميطها بفعل ما ابتدعه من وسائل الاتصال التي تتخصص في صناعة الأذواق وفبركتها.

إن هذه القدرة على التنميط والأحادية تتجلى أيضا على المستوى السياسي، فعلى النهج ذاته استطاع المجتمع الحداثي أن يكون مجتمعا بلا معارضة! مجتمعا مغلقا من الناحية السياسية. ويستحضر ماركيوز للاستدلال على ما سبق النموذج السياسي الأمريكي الذي استحال في التنميط السياسي إلى التمكين لحزبين اثنين يلعبان دور المعارضة لبعضهما البعض مع أنهما متماثلان! فلا أحد يستطيع أن يميز في المجتمع الحداثي بين برامج الأحزاب الكبيرة التي بلغت درجة من التماثل الغريب والمضحك! وهذا الإفلاس في الواقع السياسي للمجتمع الحداثي لا تشهده المجتمعات الرأسمالية فقط، بل حتى المجتمعات الاشتراكية- التي كانت موجودة زمن كتابة ماركيوز لمؤلفه هذا– حيث أنها هي أيضا سقطت في الأحادية وانغلاق أفق الوعي السياسي!

إن المعارضة السياسية داخل المجتمع الحداثي- هذا إذا جاز تسميتها أصلا بالمعارضة- هي حسب ماركيوز تعمل على المحافظة على استمرارية النظام لا تبديله. وهذا ما جعله يصف المجتمع الحداثي بكونه مجتمعا كليانيا.

فماذا يقصد ماركيوز بالكليانية؟

إذا كان اللفظ يشير من حيث الدلالة المتداولة إلى المجتمع الذي يكون فيه للدولة ولمؤسساتها السلطوية دور مطلق، فإن اللفظ عند ماركيوز يكتسي معاني متعددة يلخصها ميشيل هار في مجموعة دلالات نستحضر منها:

أولا: إن كليانية المجتمع الحداثي تعني أنه يشتغل ككلية ومنظومة مترابطة العناصر، وذات قاعدة إنتاجية تقنية تجعل من البحث عن المردودية والربح المقصد الموجه للفعل والمؤسسات. فما هو ذو قيمة حسب هذا المجتمع هو ما له مردودية ونفع!

والمعنى الثاني لكليانية المجتمع الحداثي هو أنه يشتغل بآليات تنفي أي إمكانية للمعارضة والتغيير، آليات إدماج تنتهي إلى ابتلاع الاختلاف ومحو التميز والخصوصية.

والمعنى الثالث هو أن المجتمع الصناعي مجتمع كلياني باعتبار أنه لا يسعى فقط إلى نفي الاختلاف داخليا، بل يسعى إلى نفيه من الأرض كلها بكل شموليتها وتعدد ثقافاتها، وذلك بتصدير نموذجه في الحياة والفكر وفرضه بالقوة إذا لزم الأمر.

* نشر في مجلة النبأ-العدد 80-كانون الثاني 2006 / ذو الحجة 1426


اضف تعليق