"الإصلاح"، مفردة واضحة الدلالات، محببة الى النفوس، لما تحمله من معاني التغيير نحو الافضل وتقديم البديل الأحسن والأصلح، وإزالة حالة الفساد وكل ما يواجه الفرد والمجتمع من عقبات ويهدده من انحرافات، وغالباً ما تأتي الاصلاحات، كإجراء تتخذه الحكومات على خلفية مطالبات جماهيرية أو أصوات مطالبة بالإصلاح من جهات مؤثرة في المجتمع، مثل الحوزة العلمية والجامعات والاحزاب السياسية والمؤسسات الثقافية، مما يجعل السلطة التنفيذية وشخص رئيسها، باستعجال الخطوات الرامية لتحقيق المطالب القائمة على صفيح ساخن، كما هو الحال في العراق، حيث اصبحت الاصلاحات في دوائر الدولة تحديداً، على فوهة بركان، بسبب الغليان الجماهيري على خلفية حالات فساد مستشرية وتراكم اسقاطات وفشل في اكثر من صعيد، الامر الذي يجعل هذه الاصلاحات على المحك، رغم توفرها على الصدقية في النوايا.
إن الوقت المتأخر في إطلاق هذه الاصلاحات التي يحمل لوائها اليوم، رئيس الوزراء، الدكتور حيدر العبادي، دفعت بالكثير لتشكيل تصور وفكرة عن مدى الاعتداد بالنفس لدى أهل الحكم من الاسلاميين طيلة السنوات الماضية، على أنهم لم يرتكبوا خطأ يستوجب الإصلاح، وقد قالها رئيس الوزراء السابق في أول تعليق له على أحداث ما يسمى بـ "الربيع العربي" بأن العراق ليس بحاجة الى ثورات وتغيير، فقد تجاوز هذه المرحلة... في إشارة منه الى تجاوز مرحلة الديكتاتورية في صورتها "الصدّامية"، وإذن؛ كل شيء على ما يرام!.
لذا فان إصلاح ما أفسده الآخرون طيلة حوالي عقد من الزمن، يحتاج الى جملة شروط وعوامل تساعد على نجاحه، يمكن ان نختزلها بقضيتين: الاولى؛ إعادة الثقة الى الناس، والثانية؛ تحمّل ثمن التغيير.
إعادة الثقة الى الناس
ان مشكلة الناس في العراق، كما هي في سائر البلاد التي تمر بتجربة "الاسلام السياسي"، ليس في هذا الوزير او ذاك النائب او ذلك المسؤول، إنما في الاجراءات والقوانين والسلوك والممارسة، كل هذه وغيرها من مفردات التعامل اليومي، هي التي تحدد وجود المصداقية من عدمها، وفي العراق، أول جدار تعرض للانهيار في البناء المشترك بين المواطن والمسؤول، هو "الثقة"، فلم يعد معظم العراقيون يثقون بوعد أو حديث أو حتى بشخصية مسؤول في الدولة، حتى وإن كان يتحدث لما فيه مصلحة الناس او ما ينتظرونه من اجراءات تمسّ حياتهم اليومية.
وقد أشار سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الى دعاة التغيير ومستقبل العراق"، الى هذه النقطة الجوهرية في العلاقة بين المواطن والدولة، وحذر "من الخوض في الوعود بلا ميزان، للناس، سواءً قبل الوصول الى الحكم، أو بعد الوصول اليه، فان قد يحاول بسبب الوعود الخلابة ان يجتذب الناس حوله، بينما ذلك يأتي بعكس النتيجة، فانه كثيراً ما لا يتمكن الانسان من الوفاء بوعده، فينفضّ الناس من حوله...".
ومن أكثر الخطوات التي طالما ينتظرها الناس من الإصلاحات؛ معاقبة المفسدين واللصوص الذين نهبوا المليارات خلال السنوات الماضية، فقد ملّوا من سماع الفضائح وحتى الاستجوابات أمام البرلمان لهذا المسؤول وذاك، وقد ثبتت عليه جريمة الاختلاس، لكن دون مقاضاة او استرداد لأموال الشعب المنهوبة. وفي كتاب "السبيل الى إنهاض المسلمين"، يشير الامام الراحل الى التفاتة هامة في نظام حكم أمير المؤمنين، عليه السلام، وكيف أنه قوى العلاقة بينه وبين المجتمع، عندما كان يسارع الى عزل الولاة او تأنيبهم لمجرد بلوغه حالة إسراف او تجاوز على حقوق المسلمين، ومنها الشكوى التي قدمتها امرأة مسلمة من أحد الولاة، فما كان أن سحب رقعة كتب عليها قرار عزله، وأعطاها المرأة فذهبت، وما أن وصلت منطقتها او بلدتها إلا وكان الوالي معزولاً، وفي حادثة يرويها الامام الراحل عن عزل أمير المؤمنين، لأحد أبرز اصحابه، وهو أبو الأسود الدؤولي عن منصب القضاء، "مع علمه وعدالته وفضله"، وعندما جاء أبو الأسود الدؤولي الى الإمام يستفهم السبب في عزله، أجابه، عليه السلام: "إني رأيت كلامك يعلو كلام الخصمين".
فعندما نؤكد على العلاقة المتينة بين افراد المجتمع الاسلامي وبين أمير المؤمنين، عليه السلام، بصفته الحاكم المنتخب والرسمي – إن صحّ التعبير- فان مردّه الى هذه النقطة تحديداً، وهو ما كان يفتقده من قبله، من الحكام، لذا حدث ما حدث في عهد عثمان، وعليه فان إنزال العقاب بالمسؤول المذنب او المجرم، تمثل جرعة حيوية لأي اجراءات إصلاحية ترنو اليها أية حكومة.
ثمن الإصلاحات
حتى وإن خرجت الاصلاحات عن طور الكلام والوعود الى حيّز التنفيذ، فان ليس بالضروة ان تصيب الهدف وتحقق الغاية المرجوة؛ من تحسين الوضع المعيشي للناس وإنعاش الاقتصاد والقضاء على المحسوبية والمحاصصة السياسية المقيتة واجتثاث كل بذور الفساد. لأن المطلوب اجراءات حاسمة تمسّ قطعاً مصالح الكثير ممن كانوا – وما يزالون ربما- يعشعشون فوق مستنقع الفساد، والاصلاحات الحقيقية هي تلك التي تهدد هذا المستنقع الآسن ومن يعتاش عليه. بمعنى أن القضية بحاجة الى مسح شامل لحالات الفساد بغية تحقيق الإصلاح الحقيقي والتغيير نحو الافضل. وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الراحل في كتابه "ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين"، ولمن يقرأ هذا الكتاب يجده أشبه بالوثيقة العلمية لمشروع إصلاحي من شأنه ان ينقل المسلمين من حالة الضياع والتخلف والتبعية في العالم، الى قمة السيادة والتقدم. وبالامكان اقتطاف بعض النقاط التي يعدها سماحته من "المقدمات الاساسية للتغيير":
1- الرجل المناسب في المكان المناسب
وهذه نقطة واضحة جداً ومفهومة للجميع، لكن الجميع يتنكّر لها، او البعض يعد نفسه غير معني بالأمر لأنه ذو كفاءة وخبرة وتجربة و....! وما تشهده العديد من البلاد التي جربت الاسلام السياسي من سوء إدارة وفساد مالي ومظالم وغيرها من الاسقاطات، فان السبب الاول في ذلك يعود الى وجود الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، ثم تفتح الابواب على مصراعيها أمام الاختلاسات والمحسوبيات والقرارات الارتجالية غير المدروسة، فيما يقع عبئ تحمل القوانين والاجراءات على المواطن البسيط، فهو الذي يجب ان يكون كفوءاً ومستعداً لتحمل كل شيء قبل الموظف والمدير والوزير!
2- محاربة القوانين المبتدعة
وطالما أشار سماحة الامام الراحل الى هذه القضية في عديد مؤلفاته، داعياً الى التحرر من القوانين التي خلفها الاستعمار ثم كرسها أذنابه من الحكام، وهي المسؤولة عن مصادرة الحريات والتجاوز على الحقوق والكرامة الانسانية وضياع العدل والمساواة. ويشير سماحته دائماً، الى قوانين السفر والجنسية والعمل والسكن وغيرها.
فاذا كان سماحته يدعو المسلمين صراحة الى "خرق ما يستطاع من هذه القوانين المخترعة المناهضة لحريات المسلمين والمضادة لاحكام الاسلام، بشتى الوسائل الممكنة..."، فان على الحكومة الساعية الى تحقيق إصلاح الفساد، النظر في القوانين التي ترعى هذا الفساد وتوغل في معاناة الناس ومشاكلهم.
ومثال بسيط على ما نذهب اليه، من واقعنا العراقي، حيث يواجه شخص مهجّر في إحدى المدن مشكلة عويصة في ايجاد السكن بالثمن الذي يناسبه، وقد قرر صاحب الدار استرجاع داره، وعندما اراد الانتقال الى منطقة اخرى، واجه المنع من "الشرطة" لانه غير مسموح له العيش في أي منطقة يريد، إلا المنطقة التي حصل من مركز الشرطة فيها على موافقة السكن مع عائلته!
هذه القوانين المقيدة الى جانب الروتين القاتل مع جيش من الموظفين الذين اعترف الجميع بعدم جدوائيتهم، هم الذين يجب ان يشملهم الإصلاح الحقيقي وان تتم علمية تنظيف كاملة للقوانين والاجراءات الحكومية، ولو بشكل تدريجي، ليشعر المواطن ان الغيوم السوداء بدأت تنقشع عن حياته، فبامكانه السفر والحضر والبناء والعمل وغيرها من الحقوق. علماً أن "العراق الجديد"، ما يزال يتبع قوانين صادرة من "مجلس قيادة الثورة" المنحلّ الذي يعود الى عهد الديكتاتورية البائد!
3- الشجاعة المزيجة بالحكمة.
وهذا ما نجد معالمه في اجراءات الدكتور العبادي، بيد ان المطلوب في نفس الوقت؛ الحكمة والروية في تنفيذ "حزمة الاصلاحات" التي يرمي اليها لتحسين الاوضاع في العراق. لذا نجد سماحة الامام الراحل يوجه الشجاعة والشجاع لأن يكون "مزيجاً بالحكمة وإلا فبدون الحكمة لا يسمى شجاعة بل تهوراً، والتهور كالجبن كلاهما خطر على الانسان فرداً او جماعة او أمة بسبب التأخر...".
مهما يكن من أمر، تبقى مسألة الاصلاحات؛ السياسية منها او الادارية او الاقتصادية وغيرها، أشبه ما تكون بالإسعافات الاولية او انتقال مريض الى حالة الطوارئ، لاسيما في بلد مثل العراق، حيث يشهد تراكم حالات الفساد والانحراف في ظل نظام حكم أقرب ما يكون الى الشريعة الاسلامية وأحكام الدين، ويديره اشخاص يعدون انفسهم خريجوا المدارس الفكرية الاسلامية. مما يجعلهم - بالاساس وقبل كل شيء- أمام المسائلة بالتوقيت في هذه الاصلاحات، وما الذي أبقى المفسدين والمشبوهين الذين تم عزلهم حالياً؟ في حين يفترض بالرموز السياسية "الاسلامية" أن تفكر بالاصلاح والتنمية والتطوير لتفادي كل هذه المعاناة والاستنزاف الرهيب في القدرات والثروات.
اضف تعليق