لكل مرحلة من المراحل السياسية والاجتماعية طبيعتها وظروفها التي تختلف قطعا عمّا سبقها، إلا في بعض الحالات النادرة حيث يحدث بعض التشابه، فيُقال عندها (إن التأريخ يعيد نفسه)، ولكن تبقى الدول في حالة متحركة تبعا لما يحدث من تجديد في القيم وتحديث في الفكر، لذلك تبقى الأفكار في دوامة التغيير، وربما تظهر قيم جديدة وتندثر أخرى، وفي جميع الأحوال لابد أن تتغير شخصية الإنسان تبعا لطبيعة المرحلة، بسبب تغير المنظومة الفكرية، وعندما يتصدى المعنيون من رجالات الفكر والسياسة لبناء الدولة الجديدة، لابد أن يكون هناك استعداد لهذا البناء، وفي المقدمة من ذلك تأهيل الشخصية بما يتسق ويتناسب مع المهام والأهداف الموكلة لها.

الاستعداد والتأهيل من العوامل المهمة لتجديد المجتمع ونقله الى مصاف المجتمعات الراسخة، لذا فإن مفهوم التأهيل يعني في أوضح وأدق تعريف له، هو (تهيئة الإنسان لكي يكون منتجا)، وتشمل هذه التهيئة، الجوانب النفسية والجسدية والحرَفية والعلمية، لذا ثمة جملة من الإجراءات التي تنتظم ضمن خطة واضحة المعالم ينبغي وضعها ومن ثم تطبيقها، بعد أن يتم الاستناد إليها والعمل بها لغرض جعل الإنسان متفاعلا مع الأهداف الفكرية والعملية التي يسعها لهضمها وتحقيقها، من هنا ينبغي التأهيل المسبق قبل تكليف الإنسان بمهمة ما، وبخصوص العراق في المرحلة الراهنة فهو أحوج ما يكون الى الشخصية المعدَّة والمؤهَّلة دائما.

ترتقي الأمم من خلال وضع الأسس السليمة للتفكير، وتحريك الأدوات البشرية الناهضة بمشاريع التجديد، والمعني هنا بالتحريك، الاستعداد، أو جعل الإنسان في حالة مناسبة للانطلاق بالمشروع المكلف به، ولابد أن يكون مؤهلا لهذه المهمة أو تلك، فلا يصح زج شخص في مهمة غير مستعد ولا مؤهل لانجازها، فالتأهيل والاستعداد إذن ثقافة ينبغي أن يتعلمها الجميع، ويجب أن تكون من ضمن تفكير وسلوك الجميع، بمعنى صنع شخصية عراقية تحب التطوير وتسعى إليه بشتى السبل.

ما هي الحلول الذكية للمشكلة؟

لذلك هنالك في الشعوب المتقدمة طراز محدد من القيم تحكم السلوك والتفكير المجتمعي عموما، من ضمن هذه القيم، أن لا يتم زج الإنسان في عمل ما قبل تأهيله له، حيث تلجأ هذه الشعوب الى تدعيم مواهب وقدرات الفرد لكي يكون متميزا، وفاعلا ومنتجا ومتواصلا في عطائه عن رغبة وتميز، لذلك تحاول العقول الإدارية المسؤولة في المجتمعات المتقدمة أن تضع الحلول الذكية دائما من اجل تجديد الدماء والرغبات والإبداع لدى الفرد، فمن الأهمية بمكان أن يكون الفرد مؤهلا لما يُعرَض عليه من مهمة في أي مجال كان.

قد تبدأ عملية إعداد الشخصية منذ طفولة الإنسان، ونعني هنا التربية العملية، أي كيف تكون مؤهلا للإنتاج، هناك خطوة تتخذها بعض الدول لتأهيل الإنسان قبل مطالبته بالإنتاج الأفضل او الأمثل، من خطوات التأهيل المعمول بها في تلك الدول، مثلا منح المعلم إجازة من العمل لمدة شهر وإرساله في دورة تطويرية الى إحدى الدول المتقدمة، فتكون هذه الإجازة بمثابة تجديد للفكر وأساليب العمل، فضلا عن تجديد طاقة الجسد والعقل والنفس من خلال فرص الترفيه المتاحة والمدعومة من لدن الدول ماليا، وهكذا يعود المعلم - مثلا- بحصيلة تربوية رائعة من خلال إطلاعه أثناء الدورة التطويرية على أحدث أساليب التعليم، والتعامل المتوازن والناجح مع الطلبة، وحتما ستكون نتائج التعليم متميز، لسبب واضح، هو الإعداد والتأهيل المستمر.

إن عملية التأهيل هنا لا تتعلق بعمل آني، ولا يمكن أن يكون محصورا بفرد معين، فالجميع ينبغي أن يسعى لاعتماد هذه الثقافة، بداية من الأسرة، التي يجب أن تتحمل مسؤولية تأهيل أفرادها لانجاز المهام الموكلة لهم، لا ينحصر هذا الأمر بالمعلم أو الطبيب أو أي موظف وعامل آخر، لان الجميع بحاجة الى عملية تأهيل متواصلة، وفي الغالب تكون الحكومة مسؤولة عن هذا النوع من التأهيل، ولكن يجب أن يكون هناك دور مهم للمنظمات الأهلية الثقافية التي تقوم بمثل هذه الأنشطة التطويرية لمهارات ومؤهلات أفراد المجتمع لمساهمة في بناء الشخصية العصرية.

وإذا ما تم نشر مثل هذه الثقافة بين أفراد المجتمع عموما، بدءاً من الأسرة، فسوف تكون هنالك نزعة ورغبة تنحو الى التأهيل المتواصل، بالإضافة الى هذا الجهد الطوعي، هنالك بعض المؤسسات الأهلية الإنتاجية او سواها تقوم بعمليات تأهيل متواصلة لكوادرها، بسبب إيمانها بأولوية تنمية رأس المال البشري، فالغرب على سبيل المثال، يهتم برأس المال من العملات الصعبة التي تدعم الاقتصاد وتطوره، ولكن الغرب نفسه يهتم أكثر برأس المال البشري، لأن المعنيين من قادة المجتمعات الغربية يعرفون ماذا يعني تأهيل الإنسان وإعداده لإنجاز مهمة ما.

ما هي مستلزمات تطوير الشباب؟

ولابد أن يقود عملية الإعداد والتأهيل كوادر متخصصة، تقودها عقول ذكية وقادرة على وضع الأفكار الراقية في مجالات الإنتاج المتنوعة، وقد أكدت دراسة متخصصة على أهمية تدريب الكوادر في مختلف المجالات التعليمية والتربوية والثقافية، مشيرة إلى ضرورة تضافر الجهود في توفير مستلزمات بناء الشباب لكونه يشكل القاعدة الأساسية في المجتمع، وذلك من خلال الدورات التدريبية المركزية، لتأهيل الكوادر القيادية العاملة في مجال الأنشطة التربوية، مع أهمية متابعة ومراقبة ما يتعرض له الشباب من ضغوط معنوية ومادية، تدفع بهم للابتعاد عن واقعهم وقضاياهم المهمة، وفي هذه الحالة قد لا يكون الشاب متفاعلا مع الإعداد والتأهيل الذي يحصل عليه، فتكون النتيجة وكأنه لم يحصل على دعم أو دورة لزيادة قدراته.

فالمهم ليس التدريب بحد ذاته، وإنما تهيئة الفرد نفسيا وعقليا لتقبل عملية التأهيل وبناء شخصيته لتقبّل الأمر، لذلك لابد من وضع استراتيجيات وخطط عملية فاعلة وفق معايير وأسس علمية حديثة، تضمن الوصول إلى الأهداف المرجوة، من خلال إقامة الدورات والندوات والمؤتمرات، لاستقطاب أكبر عدد من الشباب وتأهيلهم وتدريبهم في المجالات المختلفة، بعد التأكد من إقبالهم على مثل هذه الدورات التنموية ذات الأهمية والتخصص. ‏

وعندما يكون الاستعداد وقبول التأهيل والتطوير نوعا من الثقافة والسلوك الجمعي، عند ذاك نكون قد حققنا جانبا مهما من الأهداف التي تصب في صالح المجتمع، من هنا لابد من الحرص الجمعي (الرسمي والأهلي)، على تطوير وتنمية قيمة التأهيل، لكي يكون الفرد قادرا على مواصلة العطاء، ومؤهلا بصورة جيدة لأداء عمله في أفضل صورة ممكنة، وكلما كان الاحترام والاهتمام بقيمة التأهيل حاضرا، كلما كان المجتمع قابلا للتنوير والتطور أكثر من سواه، لهذا ينبغي أن يعمل المعنيون والمساعدون لهم على ترسيخ ونشر هذا النوع من السلوك بصيغ جماعية لكي يكون المجتمع بكل شرائحه، مستعدا بشكل دائم للتطوير والتجدد.

اضف تعليق