يقف بكوفيّته الحمراء ولحيته الطويلة وثوبه القصير بالقرب من الحاجز الفاصل مع مراقد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، في البقيع، وهو يتكلم الانجليزية والفارسية الى جانب العربية، ليوحي للزائرين بأن لا عدواة وبغضاء "لأهل البيت فنحن نحبهم..."!، أما خلال زيارتنا لموقع معركة أحد ومراقد الشهداء، وفي مقدمتهم؛ سيد الشهداء، حمزة ابن عبد المطلب، فما أن وصلنا الى هذه المنطقة وترجلنا من الحافلة، حتى بدأ الشريط المسجل يبث ما يزعمون أنها احاديث من رسول الله، بأن يهود أمتي، الذين يتخذون قبورهم مساجدهم.
هذه الاستفزازات ترمي الى ما ترمي اليه؛ لحصر مطلب إعادة البقيع وسائر المشاهد المشرفة في مكة المشرفة والمدينة المنورة، بالشيعة لوحدهم، ولا علاقة للمسلمين بذلك، وهذا إن كان قبل سنوات يمثل محاولة محدودة بالزمان والمكان، فهي اليوم تحولت لدى حكام آل سعود الى جزء من استراتيجية المواجهة المفتوحة مع خصومهم في المنطقة، وكلما تمكن السعوديون من تكريس هذه الرؤية في اوساط المسلمين، كانوا أقرب الى تحقيق هدفهم بخنق الاصوات المطالبة بإعادة بناء البقيع وإفراغ القضية من بعدها الاسلامي والحضاري.
لماذا تغييب المسلمين؟
بالرغم من كل ما ينشر في وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي خلال السنوات الماضية حول أئمة البقيع، إلا أن هنالك مؤشرات دالة على وجود نقاط فراغ واسعة في أذهان المسلمين عن الأئمة الاربعة، بفعل التعتيم الاعلامي والتضليل الممنهج طيلة عقود طويلة من الزمن، وغلق كل ابواب المعرفة والثقافة الصحيحة امام المسلمين ليكتشفوا حقائق تاريخهم، على الاقل، ولعل القصور في الجانب الآخر – الشيعي- في بذل المزيد من الجهود لإيصال صوت الحقيقة الى جميع المسلمين في العالم أجمع.
ولو عرف المسلمون جميعاً من يكون الامامين الصادق والباقر، عليهما السلام، وفضلهما على العلم والمعرفة ودورهما في تقدم البشرية وسعادة الانسانية، ومن يكون الامام الحسن، عليه السلام، ودوره الذكي في المواجهة الصامتة والناجحة للدولة الأموية، وايضاً؛ الدور التربوي البارع للامام السجاد، عليه السلام، وريادته في تحرير العبيد، بعد تحويلهم الى رجال علم وثقافة وأدب لبناء المجتمع؛ لو عرفوا كل هذا وغيره كثير، لكان الموقف غير الذي نراه اليوم، على الاقل، لم نكن لنشهد الصمت وعدم المبالاة في العالم الاسلامي بموضوع البقيع، وكأن شيئاً لم يكن.
وهذا يتأكد اكثر في الوقت الحاضر، حيث تطور الفكر وانتشار الوعي بين الشعوب الاسلامية، فما تتفاعل معه وتتبناه، ليست الثقافة والعلوم التي جاء بها أئمة البقيع، إنما ما تصدره الأمم والشعوب الاخرى الينا من طريقة للعيش ونمط السلوك، وهذه ظاهرة حضارية طبيعية، عندما ينحني الضعيف والفقير، بسبب الحاجة، أمام الغني حضارياً وثقافياً، بما يمكن عدّه جريمة بحق الشعوب الاسلامية بحرمانها من مصدر قوة هائلة، ثم إلقائها وسط الصحراء دون وقاء من الاحتمالات السيئة.
المهمة غير المستحيلة
ربما يتصور البعض أن المطالبة بإعادة بناء مراقد البقيع، وحتى سائر المراقد المشرفة، مثل مرقد السيدة خديجة وسيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وأبو طالب، وغيرهم، من الامور المستحيلة في الوقت الحاضر، متأثرين بالاجواء السياسية المشحونة، بيد ان وجود مؤسسات ثقافية ومراكز بحثية في دول اسلامية لها ثقلها في العالم الاسلامي، من شأنها خلق واقع جديد وتبني أمر البقيع بكل قوة.
وبما أن القضية تستند الى العقل والمنطق اكثر منها الى العاطفة، فان التعاطي الموضوعي والاعتماد على الادلة والبراهين على أحقية وجود المراقد بأبهى ما يكون في البقيع، هو الذي يخلق رأياً عاماً في العالم الاسلامي ويخرج القضية من اطارها الطائفي الى رحاب المطالبة الشاملة من الامة جمعاء.
ومن أهم المباحث في هذا المجال؛ المبحث الحضاري وما ينطوي عليه من انتاج الوعي وصياغة الثقافة التي تحتاجها الامة، عندما تتحول هذه المراقد الى رموز ثم مصادر إلهام وقدوات تفوق ما لدى سائر الشعوب من رموز أقل بكثير ما يضمه تراب البقيع، بل هنالك من الرموز الوهمية وغير الواقعية مثل "الجندي المجهول" تحتفي به الشعوب والدول وتشعل النيران وتضع الزهور فوق قطع رخام وأبنية مشيدة غير ذات روح. كل ذلك من اجل ربط هذه الشعوب برمز يلهمها معاني وقيم ومفاهيم مثل التحدي والصمود والحرية وغيرها. فما أحوج ابناء الامة الى هكذا رموز يلمسونها بحواسهم الخمس، كما نلاحظ التجربة القائمة في البلاد التي تضم المراقد المشيدة للأئمة المعصومين، وما تركته من آثار عظيمة لا تُحد على حياة أهل تلك البلاد وعلى حاضرهم ومستقبلهم ومصيرهم.
اضف تعليق