يكتسب داعش مبررات وجوده من بقاء أفكاره وتداولها بين المناصرين والمؤمنين بفكره بشكل يعكس فلسفته الوجودية، ولذا فإن النصر العسكري لا بد أن يقترن بنصر فكري، فداعش كغيرها من التيارات التي تحمل فكراَ متشدداَ لديها من الأسس الخطابية ما يمكنها من إعادة إنتاجها من جديد...

بعد إنتهاء أسطورة داعش الإرهابي في العراق والقضاء عليه عسكرياَ، ستكون المعركة القادمة مع التنظيم هي المعركة الفكرية، إذ تعتمد المنظومة الفكرية والعقائدية للتنظيم المتشدد على تقديم الأدلة لمناصريها بتبرير أفعال القتل والتهجير وسبي النساء وغيرها من الممارسات المنافية للشرائع الإسلامية السمحاء، وذلك يتم عبر تقديم المراجع اللازمة لديمومة الفكر الإرهابي كما في كتاب إدارة التوحش لأبو بكر ناجي وغيرها من المراجع التي تبيح لعناصر التنظيم إرتكاب شتى أنواع الجرائم: كالقتل، والتعذيب، والحرق، والإبادة البشرية لمن يخالفهم كالإيزيديين فضلا عن سبي النساء والأطفال.

ومهما كانت الذرائع والمبررات التي قدمها مفكرو الفكر المنحرف وما زالوا، نجد بأن تنظيم داعش هو نتاج سياسي قبل أي شيء آخر، إذ استثمرته القوى الكبرى لتحقيق مزيد من مصالحها في المنطقة بل عملت على تزويده بكل ممكنات البقاء، ومن ثم زواله سيكون أيضاَ من قبلهم لإنتفاء الغاية منه، ومع إنتهائه في العراق نتيجة المعارك العنيفة التي خاضتها القوات العراقية المسلحة بكافة تشكيلاتها، ومن ثم طرده نهائياَ من أراضي العراق، وكذلك الحال في سوريا وقرب الخلاص منه، نرى بأن القضاء العسكري على تنظيم داعش ليس كافياَ بل لا بد من القضاء عليه فكرياَ.

إذ يكتسب داعش مبررات وجوده من بقاء أفكاره وتداولها بين المناصرين والمؤمنين بفكره بشكل يعكس فلسفته الوجودية، ولذا فإن النصر العسكري لا بد أن يقترن بنصر فكري، فداعش كغيرها من التيارات التي تحمل فكراَ متشدداَ لديها من الأسس الخطابية ما يمكنها من إعادة إنتاجها من جديد في ظل بيئات مهيئة لتقديم كل ما هو مطلوب لإنتشار أفكارها في محيطها، لذلك يمكن عد تنظيم داعش من القوى التي تمتلك قوة الخطاب بين صفوف مناصريها أكثر من كونها تعتمد القوة العسكرية، لتكسب بذلك مجتمعاَ قادراَ على أن تحتمي به إذا ما دعت الضرورات لذلك.

ونرى بأن تلك القوى الإرهابية استطاعت أن تنجح في تحشيد أفراد المجتمعات التي خضعت لحكمها بقوة الخطاب الفكري عبر إستعدادهم للموت من أجل أهداف التنظيم التي مكنتها من إحتلال المناطق والمدن في العراق وسوريا، وذلك من منطلق إعادة مجد الخلافة الإسلامية عبر إعداد المجاميع الإنتحارية.

ويمكن القول بأن هزيمة تنظيم داعش فكرياَ ممكنة في ظل تراجع منظوماتها الفقهية والعقائدية، إذ تعد تلك المنطلقات الفقهية مصدراَ رئيساَ لكل العقائد والسلوكيات التي يؤمن بها الأفراد المنضوين تحت حكمهم، ولطالما مثلت تلك المعتقدات دافعاَ أساسياَ للمهاجرين من كل الدول إلى التمركز في أرض الخلافة بعد إعلانها في عام 2014، إذ عمل التنظيم على استثارة عواطف الراغبين بالإلتحاق بصفوفهم وأنهم يمثلون (دار الإسلام) في قبال من يصفونهم (دار الكفر) في إعادة الخلافة الإسلامية، ولذلك فهي قادرة على تسويق نفسها كمدافعة عن الإسلام ودولته ضد دولة الكفر.

وعليه يكون التنظيم قادراَ على استمراريته وإعادة أنتاج نفسه مرة أخرى عبر تلك المضامين الفكرية، وهنا يجب الإلتفات إلى نقطة مهمة وهي: مدى تقبل الأفراد في تلك المناطق التي كانت تحت سيطرتهم لإدعاءات ومنطلقات داعش مرة أخرى؟، إذ تكون تلك التساؤلات مشروعة في حالة عدها أساساَ للشروع في خطة إحتلال المناطق من جديد وإخضاعها لحكم وسيطرة التنظيم المتشدد، وقد تكون العودة هذه المرة بشكل أبشع من سابقتها، فتنظيم داعش عبارة عن روح من الأفكار العقائدية التي يرى منظرو فكرها السلفي المتشدد بأنها تمثل عبق الرسالة الإسلامية ولا تقتصر فقط على هيكل تنظيمي قد إنهار بالمعارك العسكرية، فمن الممكن لتلك الأفكار الروحية أن تستقر في المجتمع الذي يتقبلها كما هي لتكون قالباَ فكرياَ للمجتمعات التي تشكل أساس الدولة الإسلامية، أي بمعنى آخر هو مدى إمكانية استعداد المجتمعات التي تساند التنظيم على تطبيق أفكار وعقائد يؤمن بها أفراد تلك المجتمعات؟

وهذا الأمر من الخطورة بمكان، إذ يجب أن نكون حذرين ويقظين لتلك الطروحات الفكرية التي لا زالت تعمل بحرية في المناطق التي يحكم التنظيم قبضته عليها، وهي من المناطق الرخوة التي قد يستطيع التنظيم المتشدد من الولوج إليها بكل سهولة مع توافر مسببات ذلك، فخسارة داعش عسكرياَ في العراق وسوريا قد لا تعني بالضرورة خسارته أفكاره ومعتقداته، ولذلك يجب محاربة تلك الأفكار عبر إضمحلالها وبما يساعد على تخليص العالم بأسره من ظلامية تلك العقائد المنحرفة ومجموعة الأفكار المضللة التي لا تنسجم مع الشرائع الإسلامية السمحاء، ولذلك لا يمكن ترك العناصر التي تتخذ من المناطق الحدودية بين العراق وسوريا يعملون بحرية فيها من أجل إستغلال أي ظرف أمني يحدث فيها للإنطلاق مجدداَ نحو أهدافهم، إذ يعني ذلك إعطاء الفرصة للتنظيم مرة أخرى للظهور ثانية في تلك المناطق وسيكون كابوساَ مؤرقاَ للعالم ككل عبر متبنياته الظلامية.

ومن أجل تتمة النصر العسكري المتحقق على تنظيم داعش، لا بد من معالجات فكرية حقيقية للأفكار السوداوية والمنطلقات العقائدية المنحرفة للتنظيم التي يروج لها مناصروه، يجب العمل على القضاء عليها عبر آليات مضادة للفكر الداعشي، إذ لا يمكن أن نرجع أصل أي ظاهرة من الظواهر في المجتمع إلى مسبب واحد فقط، بل هناك مسببات عدة لنشوء أي ظاهرة، ونرى بأن ترك العناصر الإرهابية في تلك المناطق التي يسيطر عليها يعني إعادة إنتاج داعش من جديد، وعليه يجب استحضار كل القيم الإسلامية لمحاربة أفكار التطرف التي تنتهجها التيارات المتشددة ويكون ذلك عبر قراءة متوافقة مع المتبنيات الإسلامية القائمة على أساس من العدل، والإنصاف، وحقوق الرعية، وليس كما حصل في سيطرة تلك التنظيمات الإرهابية على مناطق كبيرة في العراق وسوريا، فالمعركة الفكرية لا زالت قائمة ولا بد من إعتماد منهجية تستند على قوة الدليل للخلاص من الأفكار المتطرفة المشوهة للشريعة الإسلامية.

ومن أجل إنهاء البنى الفكرية لتنظيم داعش المتطرف لابد من إعادة إعمار الفكر لكونه الطريق الأمثل لبناء المجتمعات وجعلها أكثر إدراكاَ ووعياً بالبيئة المحيطة بها، ومن ثم الإنتقال التدريجي من مرحلة الإنخداع الفكري إلى مرحلة المعرفة القائمة على أساس إتباع المنهج الإسلامي الحقيقي، إذ تعد محاربة الأفكار الظلامية التي جاءت بها تنظيمات داعش الإرهابي من أهم الأسس لمحاربة الإرهاب، فهي تعتمد في إنتشار أفكارها على الجوانب الفكرية والإيديولوجية بقصد الترويج للمفاهيم الخاصة بها وتعميمها على المجتمعات الواقعة تحت سيطرتها.

ومن هنا لابد من العمل بشكل جاد لتخليص المجتمعات من أفكار داعش ونشر الأفكار البناءة وتوظيفها في حوارات التعايش السلمي بين المكونات وإعادة الثقة بينهم، ونشر قيم التسامح المجتمعي وروح العمل الجماعي، وإنطلاقاَ من كون الإسلام دين سماوي يدعو إلى نبذ العنف والإرهاب ويؤمن بالآخر والتعايش السلمي مع غيره من الديانات السماوية الأخرى، ومسؤولية ذلك تقع على الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني لأنها في الأصل مسؤولية مشتركة، وكذلك يمكن إشراك مؤسسات البحث العلمي الأكاديمي بوضع الحلول والمعالجات لمكافحة تلك الظواهر الدخيلة على المجتمع العراقي.

ومن أبرز المؤسسات التي يمكن الإنطلاق منها، هي مؤسسة العائلة، بعدها مؤسسة إجتماعية تقع عليها مسؤولية مكافحة الفكر المتطرف، وهي البداية الأولى لنشأة وتكوين شخصية الفرد، وكذلك تعد المؤسسات التعليمية من أهم الآليات التي نلجأ إليها في مكافحة الأفكار الظلامية، والبناء القائم على أساس تعزيز الروح الوطنية ومحاربة الأفكار المنحرفة، وذلك عبر إعداد البحوث العلمية والمقاربات الفكرية التي تشجع على إنتهاج نمط تعليم ينسجم مع التوجهات الوطنية وسبل تعزيزها في المجتمع.

وأيضاَ يدخل في هذا الإطار المؤسسة الدينية ودورها في بناء الفكر الإسلامي الصحيح ومن ثم محاربة الفكر الإرهابي والمعتقدات التي نشرها في مناطق سيطرتهم، كون الإسلام دين ينبذ كل أشكال الإرهاب وعدم الدعوة لإستخدام القوة مع الآخرين عبر عدم إكراه الآخرين، ومن ثم بناء ثقافة دينية حقيقية تدعو إلى الإسلام وقيمه وتعاليمه، وهي مهمة يتولى تنفيذها خطباء المنبر الديني عبر توظيفهم لدور العبادة لتعزيز الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي والترسيخ لكل القيم الاخلاقية ونبذ القيم والسلوكيات المنحرفة الضالة.

ويمكن أن تكون لمنظمات المجتمع المدني دوراَ في محاربة الفكر الإرهابي وذلك عبر تشجيع الشباب على تنمية قدراتهم الذهنية وإستثمار الجوانب الإيجابية لهم في القيام بأعمال تطوعية وتوعوية وتقديم مختلف الدعم للمشاريع التي تعود بالنفع العام عليهم.

إن كل ما سبق ذكره في هذا المجال يمكن أن يساهم في محاربة أفكار التنظيمات الإرهابية ومن ثم التعجيل بنهايتهم الفكرية.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001– 2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق