مخاطر التبجّح بالانتصار في الشرق الأوسط

إيران، إسرائيل، وأشباح التاريخ

الفجوة الزمنية بين النتيجة الفورية وما يترتب عنها من نتائج قد تمتد: عبارة "المهمة أنجزت" قد تتردّد لأيام، أسابيع، أشهر، بل وحتى سنوات. ثم ماذا؟ من المغري أن يُنظر إلى التحوّلات الفورية على أنها الأكثر أهمية. لكن ذلك يبقى صحيحًا فقط إلى أن يحدث الحدث التالي. فالقصة لا تنتهي...
بقلم: حسين آغا و روبرت مالي

بالنسبة لكثيرين خارج الشرق الأوسط، تبدو الحرب الأمريكية والإسرائيلية ضد إيران وكأنها سردية خطّية: جيوش الحليفين الهائلة وأجهزة استخباراتهم مصطفة ضد خصمهم، على وشك الانتصار، حيث يقفان على أعتاب نصر حاسم لا جدال فيه. تُرى هذه المعركة ونتيجتها المتوقعة من خلال عدسة نماذج سابقة مألوفة: ألمانيا الهتلرية سُحقت وهُزمت، وقَبِلت بشروط المنتصر؛ تلتها اليابان. عندما يتحدث مؤيدو هذه الحرب عن استسلام طرف ما وكون الطرف الآخر على "الجانب الصحيح من التاريخ"، فإنهم يعتمدون على مثل هذه المفاهيم الواضحة للتقدم والحسم. فالتاريخ، في نظرهم، يتقدّم بخط مستقيم، ويتّجه سريعًا نحو شواطئ آمنة، وعلى المرء أن يختار الجانب الصحيح أو يُترك تائهًا.

أما بالنسبة لأولئك الذين يعرفون الشرق الأوسط، فإن مثل هذه الأفكار تبدو بلا معنى. إنها هراء.

فالمنطقة لها نماذجها التاريخية المفضّلة. في أوائل السبعينيات، أدّت حملة الأردن لسحق الفدائيين الفلسطينيين إلى بروز منظمة "أيلول الأسود" ومجزرة ميونيخ التي استهدفت الرياضيين الإسرائيليين في الألعاب الأولمبية. غزت إسرائيل جنوب لبنان في عام 1982 ودفعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى المنفى في تونس. النتيجة: صعود حزب الله المفعم بالحيوية، وفي وقت لاحق، انتقال الفلسطينيين المنفيين إلى مناطق أقرب إلى إسرائيل، في غزة والضفة الغربية.

 في الثمانينيات، ساعد دعم واشنطن للمجاهدين الأفغان على طرد القوات السوفييتية، لكنه أيضًا أدى إلى صعود طالبان وجيل من الجماعات الجهادية، من بينها القاعدة، التي رأت في الأميركيين العدو الأول. بعد انتصار واشنطن في حرب الخليج عام 1990-1991، جعل أسامة بن لادن وأتباعه الولايات المتحدة هدفهم الأساسي. وبعد تنفيذهم لهجمات 11 سبتمبر، غزت إدارة جورج بوش الابن أفغانستان ودحرت طالبان، ثم أطاحت بنظام صدام حسين في العراق. بعد عشرين عامًا، عادت طالبان إلى السلطة. وفي العراق، نشأ تنظيم الدولة الإسلامية من تحت الأنقاض، ولعبت الميليشيات الموالية لإيران دورًا مهيمنًا في البلاد.

عندما اندلعت الثورات في الشرق الأوسط بين عامي 2010 و2011، تبنّى الغربيون "الربيع العربي"، واحتفوا بالناشطين الليبراليين، وهللوا لانتشار الديمقراطية. لكن الظلام سرعان ما حلّ؛ فالتظاهرات السلمية والقيم السامية التي ألهمتها أصبحت ذكريات بعيدة. نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أفسح المجال في النهاية لطاغية أكثر قسوة. إسقاط حكومة اليمن أفضى إلى هيمنة الحوثيين؛ وسقوط معمر القذافي في ليبيا جلب الفوضى وعدم الاستقرار والعنف. رحل بشار الأسد، لكن مصير سوريا لم يُحسم بعد. التاريخ لا يتقدم، بل ينحرف ويهبط في أكثر الأماكن غير المتوقعة.

قد تنتصر إسرائيل في حربها ضد إيران، تمامًا كما قد تفعل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو في لبنان، أو سوريا. قد تخرج منتصرة، باعتبارها القوة الإقليمية المهيمنة بلا منازع. قد تظهر إيران كنمر من ورق؛ ويُهزَم شركاؤها من الدول الاخرى أو يُصابوا بالضعف؛ وقد يتحطم برنامجها النووي؛ وجيشها يصبح مجرد ظل لما كان عليه. قد لا تتحقق أحلام إسرائيل في تغيير النظام، لكن الفوضى قد تسود. بالنسبة لكل من رأى في إيران عملاقًا مرعبًا، ورُهب من قدرتها على الردع وجُمّد بفعل تهديداتها، فإن هذه أيام المحاسبة.

وقد يستمر هذا الحال لبعض الوقت. الفجوة الزمنية بين النتيجة الفورية وما يترتب عنها من نتائج قد تمتد: عبارة "المهمة أنجزت" قد تتردّد لأيام، أسابيع، أشهر، بل وحتى سنوات. ثم ماذا؟ من المغري أن يُنظر إلى التحوّلات الفورية على أنها الأكثر أهمية. لكن ذلك يبقى صحيحًا فقط إلى أن يحدث الحدث التالي. فالقصة لا تنتهي. القوة تستدعي قوة مضادة. والنجاح يولد ردود أفعال تفضي إلى نقيضه. كلما اقتربت إسرائيل من الانتصار الكامل، كلما اقتربت من حالة من عدم اليقين الكامل، ومن أخطار يطلقها الإذلال المكبوت والغضب والحقد. مثل هذا النصر ليس مكانًا آمنًا.

بالنسبة للإسرائيليين، كان الإغراء بالتحرك لا يُقاوم. لقد انتظروا عقودًا ليتمكنوا من إسقاط أعدائهم، سواء القريبين أو البعيدين، الحقيقيين أو المتخيلين. ومع زوال كل القيود، باتوا يعتقدون أن حدودهم الوحيدة هي قدرتهم على التنفيذ، وهم قادرون على الكثير. لكن على الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن تكون أكثر وعيًا. فاليهود لم ينسوا ارتباطهم بالأرض المقدسة بعد ألفي عام من المنفى. والفلسطينيون، واللبنانيون، والإيرانيون، أولئك الذين لا يزالون يتذكرون معركة كربلاء في القرن السابع، التي قادت إلى استشهاد حفيد النبي محمد، الحسين، لن ينسوا ما حلّ بغزة من ويلات، وقصف مدنهم، والمجازر، والعار، واغتيال قادتهم، وخيانة الغرب ونفاقه وخواءه الأخلاقي. ومع ذكريات بهذا العمق وآفاق بهذا البُعد، فإن كثيرًا مما يُرى اليوم على أنه مصيري، سيكون بلا أهمية في المستقبل.

المخاطر القادمة قد لا تكون من النوع المألوف. قد تتطلب إعادة تشكيل "محور المقاومة" الإيراني بدرجة لا تقل عمقًا عمّا أحدثته إسرائيل بالقوة. فعلى مدى السنوات، ومع شعورها بالتمكّن، بنت إيران ترسانة تقليدية، مؤمنة بأنها قادرة على ردع إسرائيل وتحديها في ساحة طالما تفوّقت فيها الدولة العبرية. حزب الله، ثم حماس من بعده، أقاما شبه دول في لبنان وغزة، مع مسؤوليات مدنية مرهقة وجيوش شبه نظامية. ورأى الثلاثة في هذه الإنجازات مؤشرات قوة، وتغاضوا عن مدى هشاشة هذه الإنجازات، وكيف أن الضعف نشأ من مظاهر القوة الظاهرة.

ثمة سبب جعلهم في البداية يعتمدون أساليب أكثر حركة وتخفّيًا تشبه أساليب الجماعات المسلحة. كانت قوتهم تكمن في عدم التماثل. وحين انحرفوا نحو محاولة مجاراة عدوهم، تاهوا عن الطريق وفقدوا زمام الأمور. فانكشفوا. في الأيام والسنوات القادمة، قد يشعرون بالحاجة إلى العودة إلى التكتيكات القديمة. وقد لا يمر وقت طويل قبل أن يلجأ مزيد من الفلسطينيين واللبنانيين والإيرانيين وغيرهم ممن تحركهم قضيتهم -يائسون، فقدوا أصدقاء أو عائلة، يتوقون للانتقام، ولا يرون إلا الظلام أمامهم-، إلى أشكال غير تقليدية من الحروب، بعضها مخطط له بعناية، وبعضها مرتجل، نسخ اليوم الأشد فتكًا والأكثر تطورًا تكنولوجيًا من طائرات وباصات مخطوفة، واحتجاز رهائن، وهجمات انتحارية. شيء جديد، مختلف، أكثر تدميرًا، وفي الوقت ذاته، عودة إلى الماضي. قد تشير إنجازات إسرائيل في الاستخبارات التقنية، والهجمات السيبرانية، وتفجيرات الأجهزة، والاغتيالات الدقيقة، والمجازر الجماعية للمدنيين، وغيرها، إلى أساليب ستُستَخدَم من قِبل الجميع. والمؤشرات بدأت تظهر بالفعل.

يستغرق التاريخ وقتًا ليصل إلى وجهته، ولن يصلها قبل أن يسلك مسارات مضللة عديدة. السنوات المقبلة لن تعكس خططًا منمقة أو وصفات سياسية صارمة. بل ستتشكّل بفعل الغريزة والعاطفة، مستلهمة من رغبات خام متجذّرة في أعماق الذاكرة من أجل جبر التاريخ والانتقام. هذا ليس عالمًا بناه الأمريكيون أو صُمم من أجلهم. سيكونون فيه تائهين.

......................................

* حسين آغا قضى أكثر من 25 عامًا زميلًا أقدم في كلية سانت أنتوني، جامعة أكسفورد، وشارك في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية لأكثر من ثلاثة عقود.

روبرت مالي مُحاضر في كلية جاكسون للشؤون العالمية بجامعة ييل، وشغل منصب المبعوث الأمريكي الخاص لإيران في إدارة بايدن، ومنسق شؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض في إدارة أوباما.

وهما مؤلفا الكتاب القادم: الغد هو البارحة: الحياة والموت والسعي وراء السلام في إسرائيل وفلسطين.

https://www.foreignaffairs.com/

اضف تعليق