يُعتبر رأس المال من بين أهم السمات المركزية لإقتصاد السوق، حيث ان نظام المشاريع الحرة والملكية الخاصة عادة يُشار له بمصطلح "رأسمالية". الاقتصاديون، بدورهم، استخدموا مفهوم رأس المال في نظرياتهم ونماذجهم منذ ولادة الاقتصاد كموضوع منفصل.

غير ان الفهم الكلاسيكي لرأس المال ومكانه في النظرية الاقتصادية كان مشوشا. وحتى بعد ان اُعيد تنقيحه في ضوء نظرية الانتاجية الحدية الجديدة للسعر، فان زيادة الشكلانية المفرطة في الاقتصاد في القرن العشرين قادت العديد من الاقتصاديين الى فقدان الرؤى الجديدة.

هذه المقالة تستعرض هذه التطورات وتوضح سبب استفادة العديد من الاقتصاديين اليوم من الفهم الجيد لطبيعة رأس المال. هذه القضية هامة جدا ليس فقط للنظرية الاساسية لتوزيع الدخل، وانما ايضا لفهم المواضيع المعقدة مثل دورة الاعمال business cycles.

تعريف رأس المال

التعريف النمطي لرأس المال هو "وسائل الانتاج المُنتجة "، والتي هي مفهوم مادي. لكن الاقتصاديين يستعملون ايضا مصطلح "رأس المال" ليعني مقدار من النقود. وهكذا، هناك تمييز حاسم بين رأس المال المالي ورأس المال الفيزيقي (السلعي). الاقتصاديون عادة يستخدمون نفس المصطلح "رأس المال" للاشارة الى اي من المفهومين. فمثلا، صاحب محل غسيل الملابس ربما يقول انه يمتلك راس مال قيمته 300 الف دولار مستثمر في عمله. هو يعني انه لو باع كل اصول المحل ودفع جميع الديون المستحقة عليه، فسيبقى لديه 300 ألف دولار نقدا. هنا "رأس المال" هو مفهوم مالي يستلزم سعر سوق ويتم التعبير عنه بوحدات نقدية.

لكن الاقتصادي ربما يجادل بالقول انه، "بالاضافة الى عدد اثنين من العمال والارض التي اقيم عليها الموقع، تستعمل المصبغة (محل الغسيل) رأس مال على شكل مكائن غسيل، وادوات تجفيف، وآلات بيع لمواد التنظيف والتنشيف. في هذه الحالة، "رأس المال" يعني بضائع مادية، وهذه لا يمكن تجميعها برقم واحد.

ان الفرق بين رأس المال المالي ورأس المال الفيزيقي هو هام جداً ويركز على القضايا التالية:

الفائدة هي ليست مردود لرأس المال الفيزيقي

الاقتصاديون الكلاسيك لديهم تصنيف ثلاثي للدخل ولعوامل الانتاج: الارض تستلم ريع، والعمل يستلم اجور، ورأس المال يستلم فائدة او (الربح). هذا التصنيف الكلاسيكي لازال قائما حتى اليوم: في اللغة اليومية، "الريع" هو ما يدفعه الفرد لمالك الارض، و"الاجور" هي الدخل المستحق للعمال لقاء بيع خدماتهم في العمل، وفي معظم النماذج الاقتصادية، الفائدة هي مساوية "للناتج الحدي لرأس المال".

لكن بعض الاقتصاديين مثل فرانك فيتر وارفنك فشر اشاروا الى ان هذه التصنيفات الانيقة ستنهار في ضوء نظرية السعر الحديثة. على سبيل المثال، افرض ان صاحب عقارات شهير يمتلك مزارع كبيرة ويؤجرها لفلاحين بقيمة 100 ألف دولار سنويا تُدفع كجزء من المحصول. من الواضح ان قيمة المدفوعات المائة الف دولار السنوية هي "ريع" ناتج عن الانتاجية الحدية للأرض.

لنفرض الآن ان سعر السوق للأرض يساوي واحد مليون دولار. لذلك، اذا يستمر المالك بامتلاك الارض وتأجيرها (بدلا من بيعها كليا)، فان المالك هو ضمنا يستثمر واحد مليون دولار من رأس ماله المالي في قطعة من العقار، يستلم منها مردود بنسبة 10%. اذا كان هناك سند آمن وطويل الامد يعطي 12% مردود، فان المالك سيفكر جديا ببيع الارض وتحويل رأسماله (المالي) الى سندات لأنه سيستلم مردود أعلى. وفق هذا المنظور، يبدو انه حتى مدفوعات الفلاحين السنوية لمالك الارض هي دخل على شكل فائدة. هذا المثال البسيط يوضح انه من الخطأ النظر الى "الفائدة" كنوع خاص من الدخل يعود فقط الى مالكي رأس المال الفيزيقي، الفائدة تستحق ايضا لمالك الارض كنسبة من المردود على "القيمة الحالية الرأسمالية" للارض.

الفائدة هي ليست الناتج الحدي لرأس المال السلعي

رغم ان المثال في القسم السابق يبدو شديد البساطة، لكنه درس ملائم حتى لحملة الدكتوراه الحاليين في الاقتصاد. اعتماداً على النماذج الرياضية المبسطة، هم جرى تلقينهم بانه في اقتصاد السوق التنافسي، سعر الفائدة الحقيقي يساوي الناتج الحدي لرأس المال، تماما كما تتساوى نسبة الاجور الحقيقية مع الناتج الحدي للعمل.

المنطق هنا واضح: لو تستأجر الشركة عامل لساعة اضافية، فان مخرجاته سوف تزيد بمقدار معين. اذا كان سوق العمل تنافسيا، فان الشركة يجب عليها دفع اجور للعامل تتطابق مع القيمة السوقية لهذه الزيادة في المخرجات العينية للشركة.

وبنفس المقدار، وكما يرى الاقتصاديون الحديثون – ان الشركة حينما تستأجر وحدة اضافية من رأس المال، فان المخرجات المادية ستزداد، عندئذ يجب ايضا على الشركة دفع فائدة لمالكي رأس المال مساوية للقيمة السوقية لهذه الزيادة في المخرجات العينية.

غير ان هذا المنطق يخلط بين رأس المال السلعي ورأس المال المالي. حينما تستأجر الشركة بضاعة رأسمالية معينة لفترة زمنية، فان المدفوع هو سعر الايجار للسلعة الرأسمالية. على سبيل المثال، افرض ان مستودع يدفع مائة الف دولار سنويا لشركة مستقلة تحتفظ باسطول من الرافعات الشوكية. هذه المدفوعات السنوية هي بالتأكيد تعبير عن الناتج الحدي للرافعات، المستودع يستطيع بيع الكثير من خدماته لزبائنه عندما يستخدم تلك الرافعات.

لكن، هذه الحقائق التكنلوجية لا تقول لنا شيء عن سعر الفائدة الذي يتمتع به مالكو الرافعات الشوكية. لكي نقرر ذلك، علينا معرفة سعر السوق للرافعات. فمثلا، اذا كانت الرافعات المؤجرة للمستودع من جانب الشركة المستقلة بيعت في السوق المفتوح بمليون دولار، عندئذ سيتمتع مالكوها بـ 10% سنويا كمردود على رأسمالهم المستثمر. ولكن لو بيعت الرافعات بـ 2 مليون دولار، فان المدفوعات بقيمة مائة الف دولار الناجمة عن الناتج الحدي للرافعات سوف توازي فقط ما نسبتهُ 5% كسعر فائدة. وكما يوضح هذا المثال، معرفة الناتج الحدي لرأس المال بحد ذاته لا يسمح لنا بتحديد سعر الفائدة. العلاقة بين انتاجية رأس المال وسعر الفائدة لايمكن مقارنتها مباشرة بالعلاقة بين انتاجية العمل ونسبة الاجور.

التطبيقات في دورة الاعمال

ربما تبدو هذه المقالة نظرية او فلسفية قليلة الصلة بالتطبيق. لكن عدم الاعتراف بالطبيعة المتنوعة لهيكل رأس مال في الاقتصاد سيقود الى اخطاء سياسية خطيرة.

لننظر في حجج السياسة بشأن دورة الاعمال. العديد من اقتصاديات السوق الحرة تعتنق نظرية الدورة الاقتصادية الحقيقية (RBC) التي تؤمن بان دورة الاعمال الاعتيادية هي ناتجة عن صدمات حقيقية في اساسيات الاقتصاد مثل التكنلوجيا او تجهيزات الموارد. في نماذج الدورة الاقتصادية الحقيقية، الركود هو في الواقع الاستجابة "المثلى" لهذه الصدمات الحقيقية، وان تدخلات الحكومة (عبر المحفزات المالية والنقدية) لن تؤدي الاّ لإعاقة تكيّف الاقتصاد مع المعلومات الجديدة.

رغم ان النماذج الشكلية للدورة الاقتصادية الحقيقية هي منسجمة داخليا وتستجيب للتوقعات الرشيدة، لكن العديد من الاقتصاديين يجدونها غير مقنعة في توضيح ركود العالم الواقعي. الاقتصاديون الكنزيون يسخرون من محاولة وصف الفترات الطويلة للبطالة وعطل الموارد كاستجابة رشيدة للمبادئ الاساسية. ولكي يوضحوا مدى السخافة التي يرونها في اتجاه الدورات الاقتصادية الحقيقية، يشير الكنزيون بسخرية للكساد الكبير بـ "الغياب الكبير". حسب رأيهم ان اعوام الثلاثينات من القرن الماضي تميزت كثيرا بعجز الطلب المتراكم، وليس باختيار العمال الطوعي في الانسحاب من العمل من السوق استجابة للمعلومات الجديدة.

الكنزيون لديهم خط آخر من الهجوم ضد محاولة بعض اقتصاديي السوق الحر توضيح الركود "كاستجابة مثلى" للمعلومات الجديدة بشأن الاساسيات. حينما يكون هناك انهيار مالي والناس يدركون فجأة انهم ليسوا بنفس مقدار الثروة التي كانوا عليها سابقا، اذاً الم تكن الاستجابة المثلى هي ان يعملوا اكثر؟ بالتأكيد نحن نستطيع تقديم نموذج من وحي الدورة الاقتصادية الحقيقية الذي هو "يعمل" لكنه يتعارض مع الحس العام. الكنزيون عادة يشيرون الى ان الولايات المتحدة لديها نفس العدد من العمال والمكائن وربما اكثر في عام 2009 كما كان عليه في عام 2008. لم يكن هناك سبب تكنلوجي يدعو لهبوط الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي كثيرا لأن "الناتج المحلي الاجمالي الممكن" ارتفع من حيث الاصل.

ان الكنزيين وبالاعتماد على التراكم في الاقتصاد الكلي، يبدو قد امتلكوا حجة قوية ضد منظّري الدورة الاقتصادية الحقيقية وغيرهم من اقتصاديي السوق الحر الذين يعتقدون بضرورة ان يُترك الاقتصاد يسوّي اموره بنفسه اثناء الركود. لو نستخدم نموذج يمثل المتوفر من رأس المال نشير اليه برقم معين، فمن الصعب رؤية سبب الانكماش السيء الذي يعقب فترة الازدهار. ولكن لو تبنّينا نموذج اكثر عمقاً بحيث يتضمن تعقيدات الهيكل الغير متجانس لرأس المال، عندئذ نستطيع رؤية ان "الفائض" في فترة الازدهار يمكن ان تكون له حقا نتائج سلبية طويلة الامد. في هذا الاطار، يصبح هناك معنى ان نرى بطالة عالية وموارد كسولة بعد انفجار فقاعة الاصول.

مثال تطبيقي عن البنّاء المحترف

لو تصورنا وجود متعهّد بناء محترف لديه مجموعة من بلوك البناء، وصفائح زجاجية، ولوحات سقفية، واخشاب وعدد من العمال ومدخلات اخرى. بناءاً على ما متوفر لديه من معلومات، هو يضع خطة لمنزل كبير. الخطة تفترض ان لديه عشرة الاف بلوكة بينما في الواقع هو يمتلك فقط تسعة الاف. هذه الخطة الاستثمارية هي فيزيقيا لا يمكن تحقيقها. مهما عمل المتعهد هو سوف لن يستطيع اكمال البيت كما وُضع في الخطة.

الآن افرض ان العمال سيدركون هذا الفرق في وقت ما. هم يحاولون ابلاغ المتعهد لكنهم لا يريدون اثارة التشاؤم بين العمال. انظر تأثير ذلك على معنويات جميع النجارين وصناع البلوك، الكشف عن الحقيقة سيكون خيبة معنوية مرعبة. لذا فان العمال يستخدمون الأغطية ووسائل اخرى للحفاظ على استمرارية الخطة.

ولكن، في لحظة ما، ستنكشف الحقيقة. حالما يدرك المتعهد ان هناك فرق 1000 بلوكة بين خطته وبين المتوفر من الستوك، سيكون رد فعله المباشر هو الطلب الى جميع العاملين بوقف العمل.

المتعهد سيتفحص سير العمل في بناء المنزل وامكانات التقدم والوقوف على الكميات غير المستعملة من المواد. هو سيغيّر الخطة من اجل انجاز افضل منزل ممكن، في ضوء الخطأ الاستثماري في الموارد. وحالما يعيد رسم الخطة، سيندمج العمال العاطلين في الموقع تدريجيا في عملية البناء. مثلا، لكي يكون موقع العمل جاهزا لإعادة البدء في الفعاليات، فان مهمات اساسية معينة لابد من ادائها اولا. كذلك، بعض العمال المتخصصين ربما تتضح عدم الحاجة لهم في الخطة المنقحة المتواضعة الجديدة.

ولو توسّعنا في المقارنة، نلاحظ ان ادامة طفرة قطاع الاسكان ستجعل فترة الهبوط في النمو اكثر سوءاً، لأن المزيد من الموارد ستصبح حبيسة في ترتيبات معينة ضمن خطة غير قابلة للتحقيق. كذلك، حالما يصبح الخطأ معروفا، سيكون الرد المثالي هو توقف فوري عن الانتاج. العمال ومعهم الموارد الاخرى يصبحون عاطلين ولا يعودون للعمل الا تدريجيا. هذه المحصلة تحدث بسبب الدور الذي يلعبه رأس المال السلعي، انه لا علاقة له برغبة العمال في الانسحاب من العمل او بتغيير التكنلوجيا. وهكذا، فان قصة دورة الاعمال الحقيقية حين تُدمج ضمن نموذج لهيكل رأس مال متنوع، ستكون اكثر وضوحاً في تشخيص فقاعة الإسكان الحقيقية وانفجارها في الولايات المتحدة.

استنتاج

رغم ان رأس المال يلعب دورا مركزيا في النظرية الاقتصادية وفي العالم،، لكن العديد من الاقتصاديين لم يعطوا له انتباها كافيا. حتى الاقتصادي توماس بكتي صاحب اشهر كتاب في رأس المال بعنوان (رأس المال في القرن الواحد والعشرين)، لا يزال يعتمد على تصور مبسط جدا عن رأس المال كتراكم منفرد. الرؤية الصحيحة للتنوع في هيكل رأس المال تكشف لنا الضعف في مستوى الاتجاهات النظرية التي توظّف "التبسيطات لأجل سهولة التحليل" والتي تخفي الحقيقة الاقتصادية. لنذكر فقط منفعتين اثنين، التعبير الاكثر وضوحاً لرأس المال يلقي الضوء على اسئلة هامة عن توزيع الدخل وايضا يعطي تفسيرات اكثر اقناعا للقيود المحتملة على السياستين المالية والنقدية الهادفة لرفع حجم الاستخدام اثناء فترات الركود.

* The Importance of Capital in Economic Theory, Library of Economics and Liberty May, 2014

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق