العولمة يمكن أن تكون مدمرة وبناءة. وفي السنوات الأخيرة، أصبح عدد متزايد من الحكومات والناس، في جميع أنحاء العالم ينظرون إليها على أنها مخاطرة صافية. وعندما يتعلق الأمر بتغير المناخ، والأوبئة، والإرهاب ليس من الصعب معرفة السبب. ولكن في مناطق أخرى، أصبحت المعارضة المتزايدة للعولمة أكثر تعقيدًا...
بقلم: ريتشارد هاس

نيويورك- أصبح تزايد الترابط العالمي– أي، تزايد تدفقات الأشخاص، والسلع، والطاقة، ورسائل البريد الإلكتروني، والإشارات التلفزيونية، والبيانات، والمخدرات، والإرهابيين، والأسلحة، وثاني أكسيد الكربون، والأغذية، والدولار، وبالطبع الفيروسات (سواء كانت بيولوجية أو برمجية)- السمة المميزة للعالم الحديث. ولكن السؤال هو ما إذا كانت العولمة قد بلغت ذروتها- وإذا كان الأمر كذلك، ما إذا كان ينبغي الترحيب بتوابعها، أو مقاومتها.

ومن المؤكد أنه دائما ما كان الأشخاص والبضائع يتحركون في جميع أنحاء العالم، سواء كان ذلك عبر أعالي البحار، أو عبر طريق الحرير القديم. ويكمن الاختلاف اليوم في حجم هذه التدفقات، وسرعتها، وتنوعها. إذ أن آثارها خطيرة بالفعل، بل تزيد خطورة. وإذا كان التنافس بين القوى العظمى، ومدى جودة إدارته أو ضعفها، قد شكلا جزءًا كبيرًا من تاريخ القرون القليلة الماضية، فمن المرجح أن يعتمد تحديد العصر الحالي على التحديات العالمية، وعلى مدى نجاح العالم أو ضعفه في التصدي لها.

إن العولمة مدفوعة بالتكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك، الطائرات النفاثة، والأقمار الصناعية، والإنترنيت، وبالسياسات التي فتحت الأسواق أمام التجارة والاستثمار. وقد عززها الاستقرار من خلال تمكين الأعمال والسياحة، وكذاك عدم الاستقرار الذي زاد من تدفقات المهاجرين واللاجئين. وفي معظم الأحيان، كانت الحكومات تنظر إلى العولمة على أنها فائدة صافية، وكانت على العموم تفسح لها المجال لتأخذ مجراها.

ولكن العولمة، كما يتضح من أشكالها المختلفة، يمكن أن تكون مدمرة وبناءة. وفي السنوات الأخيرة، أصبح عدد متزايد من الحكومات والناس، في جميع أنحاء العالم ينظرون إليها على أنها مخاطرة صافية. وعندما يتعلق الأمر بتغير المناخ، والأوبئة، والإرهاب- وكلها تفاقمت بفعل العولمة- ليس من الصعب معرفة السبب. ولكن في مناطق أخرى، أصبحت المعارضة المتزايدة للعولمة أكثر تعقيدًا.

لنأخذ على سبيل المثال التجارة، التي يمكن أن توفر وظائف ذات أجر أفضل في المصانع أو الزراعة الموجهة للتصدير، بالإضافة إلى السلع الاستهلاكية، التي غالبًا ما تكون أعلى جودة، أو أقل تكلفة، أو كليهما. ولكن صادرات دولة ما هي واردات دولة أخرى، ويمكن أن تحل الواردات محل المنتجين المحليين وتسبب البطالة. ونتيجة لذلك، نمت معارضة التجارة الحرة، مما أدى إلى دعوات إلى تجارة "عادلة" أو "مُدارة"، تضطلع فيها الحكومة بدور أكبر للحد من الواردات، أو تشجيع الصادرات، أو كليهما.

أما فيما يخص المعلومات فهي تسير على نفس الاتجاه. فقد يبدو التدفق الحر للأفكار شيئًا جيدًا، ولكن اتضح أن الحكومات الاستبدادية تعتبره تهديدًا لسيطرتها السياسية. إذ يتم بلقنة الأنترنيت إلى "شبكة الانفصال". وقاد "الجدار الناري العظيم" للصين الطريق، ليمنع بذلك الوصول إلى الأخبار عبر الإنترنت، والمواقع الإلكترونية الأخرى المشتبه فيها، ويضمن أن المستخدمين الصينيين لا يمكنهم الوصول إلى المحتوى الذي يعتبر حساسًا من الناحية السياسية.

إن قدرة الناس على عبور الحدود بأعداد كبيرة كانت في الماضي تحظى بالقبول، بل بالترحيب. وكان المهاجرون في الولايات المتحدة أساس النجاح الاقتصادي، والسياسي، والعلمي، والثقافي للبلاد. ولكن ينظر الكثير من الأمريكيين إلى المهاجرين، الآن، بحذر، ويرون أنهم يشكلون تهديدًا للوظائف، أو الصحة العامة، أو الأمن، أو الثقافة. وقد حدث تحول مماثل في معظم أنحاء أوروبا.

وكل هذا يؤدي إلى التحول نحو تفكيك العولمة- وهي عملية لها تكاليف وحدود. إذ يمكن أن يؤدي حظر الواردات إلى حدوث تضخم، وتقليل اختيار المستهلك، وإبطاء وتيرة الابتكار، ودفع الآخرين إلى الانتقام من خلال فرضهم لقيود على وارداتهم. ويمكن أن يؤدي حظر الأفكار إلى خنق الإبداع، وإعاقة تصحيح أخطاء السياسة. وغلق الحدود في وجوه الناس يمكن أن يسلب مجتمعًا من المواهب، والعمالة المطلوبة، بينما يساهم في بؤس أولئك الذين أجبروا على الفرار نتيجة الاضطهاد السياسي، أو الديني، أو الحرب، أو العصابات، أو الجوع.

ومن المؤكد أن عملية تفكيك العولمة في بعض مجالات السياسة محكوم عليها بالفشل. فالحدود ليست حواجز أمام تغير المناخ. ولا يؤدي إغلاقها إلى حماية أي بلد من مخاطر المرض، حيث يمكن لمواطنين حاملين للعدوى العودة بسهولة إلى موطنهم. ولا تضمن السيادة الأمن، ولا الرخاء.

وهناك طريقة أفضل للاستجابة لتحديات العولمة وتهديداتها. ويمكن للعمل الجماعي الفعال أن يواجه مخاطر الأمراض، وتغير المناخ والهجمات السيبرانية، والانتشار النووي، والإرهاب. ولا يمكن لأي دولة بمفردها أن تؤمن نفسها؛ فالأحادية ليست مسار سياسة جاد.

وهنا يتجلى دور الحكم العالمي (وليس الحكومة). إذ يمكن أن تصمَّم الترتيبات، بل ينبغي ذلك، لتناسب التهديد، وأولئك الراغبين والقادرين على التعاون، ولكن لا يوجد بديل قابل للتطبيق للتعددية.

إن العزلة ليست استراتيجية، ولا الإنكار هو كذلك. إذ يمكننا أن ندفن رؤوسنا في الرمال مثل النعام، لكن الموجة سوف تأتي وتغرقنا. إن العولمة حقيقة لا يمكن تجاهلها، أو تمنيها. والخيار الوحيد هو الاستجابة بأفضل السبل.

إن النقاد على حق من ناحية: فالعولمة تجلب المشاكل، وكذلك الفوائد. وتحتاج المجتمعات إلى مزيد من المرونة. ويحتاج العمال إلى الوصول إلى خدمات التعليم والتدريب طوال حياتهم، لذا فهم جاهزون للوظائف التي تظهر نتيجة للتكنولوجيات الجديدة، أو المنافسة الأجنبية التي تلغي وظائفهم الحالية. وتحتاج المجتمعات إلى الاستعداد بشكل أفضل للتعامل مع الأوبئة الحتمية، أو الظواهر الجوية المتطرفة الناجمة عن تغير المناخ.

إن العولمة ليست مشكلة يتعين على الحكومات حلها. إنها حقيقة يجب أن تدار. فاحتضان تفكيك العولمة الشامل هو علاج زائف- وهو أسوأ بكثير من المرض.

* ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، شغل سابقاً منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية (2001-2003)، وكان المبعوث الخاص للرئيس جورج دبليو بوش إلى أيرلندا الشمالية ومنسقًا لمستقبل أفغانستان ومؤلف كتاب "عالم في الفوضى: السياسة الخارجية الأمريكية وأزمة النظام القديم"، وكتاب "العالم: مقدمة موجزة"
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق