q
قبل آلاف السنين، كان البشر يعتمدون في تنقلاتهم وترحالهم على الذاكرة المكانية، وكانوا يهتدون بالنجوم وعلم الفلك في ترحالهم بين الأقطار المختلفة، ومع التطورات العلمية المذهلة والثورات الصناعية، ظهرت الأقمار الصناعية، وتبعها نظام تحديد المواقع المعروف بـ"نظام التموضع العالمي (GPS)...
بقلم: محمد أبو زيد

قبل آلاف السنين، كان البشر يعتمدون في تنقلاتهم وترحالهم على الذاكرة المكانية، وكانوا يهتدون بالنجوم وعلم الفلك في ترحالهم بين الأقطار المختلفة، ومع التطورات العلمية المذهلة والثورات الصناعية، ظهرت الأقمار الصناعية، وتبعها نظام تحديد المواقع المعروف بـ"نظام التموضع العالمي" (GPS).

واختار مئات الملايين من البشر حول العالم استخدام الـ"جي بي إس" لبلوغ وجهتهم، ما أسهَم في ضعف الذاكرة المكانية والتدهور المعرفي، وفق دراسة أجراها فريق من الباحثين في جامعة "ماكماستر" الكندية.

تشير الدراسة التي نشرتها دورية "بلوس وان" (PLOS ONE) إلى أن "أسلافنا القدماء كانوا يعتمدون منذ آلاف السنين في رحلات الصيد والتنقل على تحفيز أجزاء من الدماغ للوصول إلى وجهتهم، ومع ظهور وسائل الراحة المتاحة حاليًّا في مجالات التنقل، وتصميم تطبيقات مثل نظام تحديد المواقع "جي بي إس"، فقدت الحياة التحديات المعرفية والجسدية التي يحتاج إليها الدماغ من أجل النمو، وتم تثبيط أجزاء من المخ كانت محفَّزةً بشكل دائم في السفر والتنقل في العصور القديمة".

وأوضحت الدراسة أن "ممارسة رياضة التوجيه وبعض المهارات الملاحية قد تمنح الشخص ذاكرةً أكثر كفاءةً في مراحل متقدمة من العمر".

ورياضة التوجيه هي "نشاط بدني يعتمد على الجري في أماكن فيها هضاب ومنخفضات مع الاستعانة ببوصلة يحملها الشخص لتعيين الاتجاهات، إضافةً إلى خريطة تساعد الشخص على الوصول إلى وجهته في أقصر فترة زمنية ممكنة دون ارتكاب أخطاء؛ إذ يجب على المتبارين إتقان قراءة الخرائط ليضمنوا حسن التوجه، والدقة، وتحديد الغاية، وتقدير المسافات وفك الرموز".

التدهور المعرفي

ضمت عينة البحث 158 من البالغين الأصحاء لديهم مستويات مختلفة من الخبرة في مجال رياضة التوجيه وتتراوح أعمارهم بين 18 و87 عامًا، مقارنةً بمجموعة ضابطة تتمتع بنشاط بدني وخبرة قليلة -أو معدومة- فيما يخص رياضة التوجيه.

وبغض النظر عن أعمارهم، تمتع الأشخاص الذين يمارسون رياضة التوجيه بذاكرة مكانية أفضل مقارنةً بالمجموعة الأخرى، مما يشير إلى أن المشاركة في رياضة التوجيه قد تساعد في الحد من التدهور المعرفي؛ إذ أظهر الأشخاص الذين يعتمدون على الذاكرة والتوجيه في التنقل المكاني كفاءةً أكبر في "الذاكرة" مقارنةً بغيرهم الذين يعتمدون على نظام تحديد المواقع، ما يوضح أن "التدريبات المنتظمة والنشاط البدني قد يكون مفيدًا في وقف التدهور المعرفي ومكافحة ضعف الذاكرة المكانية".

طُلب من المشاركين في الدراسة العَدْو بأسرع ما يمكن في منطقة غير مألوفة، باستخدام البوصلة والخريطة فقط، واتخاذ قرارات سريعة في أثناء التنقل بين تلك التضاريس غير المألوفة.

وانتهى الباحثون إلى "ضرورة الحد من استخدام نظام تحديد المواقع، والاستعانة بدلًا منه بالخرائط في أثناء التنقل من أجل تقوية الذاكرة المكانية ولكي يتحدى الإنسان نفسه، واستخدام مسارات جديدة للسير أو الجري وركوب الدراجة؛ لأن مثل هذه التدريبات يمكن أن تُسهم في مكافحة الخرف".

وأظهرت الدراسة أن "ممارسة لعبة فيديو تعتمد على التنقل ثلاثي الأبعاد لمدة خمسة أيام متتالية حسَّنت الذاكرة المكانية، لكن اقتران الواقع الافتراضي بالتنقل في العالم الحقيقي يوفر فوائد معرفية أكبر؛ إذ يؤدي اقتران الواقع الافتراضي بالسير على جهاز للمشي لمدة أربعة أشهر إلى تخفيف ضمور الحُصين المتوقع المرتبط بالعمر، ومنع حدوث انخفاض في سُمك القشرة المخية".

رياضة التوجيه

يضيف الباحثون أن "رياضة التوجيه تؤدي دورًا بارزًا في المعالجة المكانية والذاكرة المكانية، وفي المقابل، فإن الاستخدام المفرط لنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) يرتبط بانخفاض حاد في الذاكرة المكانية المعتمدة على الحصين"؛ إذ يتم الحفاظ على الذاكرة المكانية الفعالة من خلال تنسيق النشاط بين مناطق الدماغ بمقدمة الفص الجبهي والحصين.

وتوضح الدراسة أن "التدهور المرتبط بالشيخوخة في الذاكرة المكانية قد لا يكون مرتبطًا فقط بالشيخوخة في حد ذاتها، ولكن أيضًا بفقدان ما لا نستخدمه، ويتضح ذلك جليًّا بالنسبة للمستكشفين الذي يعتادون الاعتماد على الخرائط في تنقلاتهم، ما قد يخفف من تدهورهم المعرفي مع تقدمهم في السن".

من جهتها، ترى "جينيفر جي هايز" -الخبيرة في صحة الدماغ والشيخوخة والأستاذ المساعد بقسم علم الحركة في كلية العلوم في جامعة ماكماستر، والباحث الرئيسي في الدراسة- أن "التنقل عبر نظام تحديد المواقع جيد، لكنه يتطلب الحد الأدنى من التحفيز المعرفي؛ إذ يؤدي الاعتماد عليه إلى إضعاف مهارات الذاكرة المكانية على المدى الطويل".

تقول "هايز" في تصريحات لـ"للعلم": فقدان القدرة على تحديد الطريق من الأعراض المبكرة لمرض ألزهايمر، ويؤثر على أكثر من نصف المصابين بالمرض حتى في المرحلة الأكثر اعتدالًا من الإصابة بالمرض، كما أن التدخلات المصممة لتقوية القدرات الملاحية قد تساعد أيضًا في درء الخرف.

وردًّا على سؤال لمجلة "للعلم" عما إذا كانت تمارين تقوية قدرات التنقل تساعد في شفاء مرضى ألزهايمر، أم أنها تمثل وقايةً فقط من المرض؟ تقول "هايز": من غير الواضح ما إذا كان يمكن لتقوية القدرات الملاحية أن تساعد في ذلك أم لا، ونُجري من جانبنا أبحاثًا على هذا الأمر الآن، والدراسة التي أجريناها من أوليات الدراسات التي تستهدف فحص ما إذا كانت ممارسة رياضة التوجيه تؤثر على الذاكرة أم لا، لكن علينا ألا نتجاهل -في الوقت ذاته- ما انتهى إليه آخرون من أن التدخلات المصممة لتقوية القدرات الملاحية تبطئ من تطور مرض ألزهايمر.

وتتابع: التدريب على رياضة التوجيه قد يكون أكثر فائدةً من النشاط البدني وحده، وعلى الرغم من أن هذه الدراسة المقطعية لا يمكن أن تتحدث عن سببية هذه الارتباطات، إلا أن هذه النتائج الجديدة تشير إلى أن رياضة التوجيه هي بمنزلة تدريب عقلي قابل للتطبيق لمكافحة التدهور المعرفي المرتبط بالعمر.

تحسين المرونة العصبية

ووفق دراسة سابقة نشرتها دورية "نيتشر"، فإن "التمارين البدنية والرياضية التي تستهدف تحسين المرونة العصبية للدماغ قد تسهم في الوقاية من ألزهايمر؛ إذ تساعد على تحفيز هرمون الإيريسين في الجسم، الذي يؤدي إلى نمو أكبر في خلايا الدماغ، ما قد يمنع مرض ألزهايمر بشكل جزئي أو كامل؛ إذ ينخفض هرمون الإيريسين الذي يفرزه الجسم في أثناء ممارسة التمارين الرياضية في أدمغة الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر، بينما ساعد إفرازه الإضافي في وقاية مجموعة من فئران التجارب من فقدان الذاكرة وتلف الدماغ".

ويؤدي التدريب البدني عالي الجهد إلى "رفع مستوى تركيز هرمون الإيريسين الذي يعمل على خفض السمنة وتقليل مقاومة الإنسولين ورفع معدل عملية الأيض التي تؤثر على العمليات الفسيولوجية في الجسم والوقاية من الإصابة بأمراض السمنة وأمراض القلب وضغط الدم والسكر، وتنظيم عمل القلب، وتنشيط الدورة الدموية والجهاز التنفسي".

كما حذرت دراسة نشرتها دورية "ساينتفك ريبورتس" من أن "الاعتماد على نظام تحديد المواقع لفترات طويلة قد يُضعف الذاكرة المكانية في أثناء التنقل"، مضيفةً أن "أدمغة مستخدمي نظام تحديد المواقع بشكل متكرر كانت مختلفةً بطريقة حاسمة عن الأشخاص الذين لم يعتمدوا كثيرًا على هذه التقنية".

وأوضحت الدراسة التي أُجريت على 50 سائقًا، أن "الأشخاص الذين استخدموا نظام تحديد المواقع في كثير من الأحيان كانت لديهم ذاكرة مكانية أسوأ مقارنةً بغيرهم الذين لا يعتمدون على هذا النظام بشكل أساسي في ترحالهم".

الاستخدام المفرط

ترى رحاب العوضي -استشاري علم النفس السلوكي- أن "الإفراط في استخدام برامج الهاتف المحمول والتطبيقات والتقنيات الحديثة يؤدي إلى تأخر استجابة الوصلات العصبية بالدماغ".

تقول "العوضي" في تصريحات لـ"للعلم": الأمر يشبه استخدام الآلة الحاسبة وما تبعها من افتقار الأطفال إلى القدرة على أداء العمليات الحسابية حتى البسيطة منها، وأرى أن الاستخدام المفرط لتطبيقات الأجهزة الإلكترونية، مثل حلول الكتابة على التابلت محل الكتابة بالقلم الرصاص، أدى إلى تأخر مستوى قدرة الأشخاص على الكتابة.

وللوقاية من الخرف تنصح "العوضي" بـ"ممارسة رياضة التوجيه، والمشي، وألعاب الذكاء مثل الشطرنج والسودوكو، والاستخدام الدائم للورقة والقلم، وتدريب الأطفال على إجراء العمليات الحسابية دون الاعتماد على الآلة الحاسبة".

من جهتها، تؤكد داليا سليمان -استشاري الطب النفسي- أن "أي نشاط عقلي يؤدى إلى تحفيز الدماغ وتجدد خلاياه، وتطور الإدراك الحسي والبصري وتنمية الذاكرة المكانية".

تقول "سليمان" في تصريحات لـ"للعلم": تجنُّب الاستخدام المفرط لنظام تحديد المواقع في أثناء التنقل والاعتماد على الذاكرة المكانية عمل معرفي وإدراكي من شأنه أن يحفز العقل وخلايا المخ، وهذا التحفيز يجعل ذهن الإنسان حاضرًا دائمًا ويجعله في حالة تأهُّب إدراكي ويؤثر إيجابًا على صحة العقل والإدراك وتجدُّد خلايا المخ وحمايته من ضمور الخلايا الذي يؤدي إلى أمراض مثل الخرف وألزهايمر.

وتؤكد "سليمان" أهمية "ممارسة الألعاب العقلية وحل المسائل الرياضية لتنشيط الذاكرة، والتوقف عن أداء عدة مهمات في وقت واحد، والتركيز في مهمة واحدة ثم الانتقال إلى غيرها؛ لتجنُّب تشتت الانتباه وفقدان التركيز".

اضف تعليق