الموت وسرّ الرحيل

قراءة قرآنية وروائية لحقيقة الموت

السرّ يكمن في كون الموت انتقالًا من ضيق المادة إلى سعة الوجود، من عالم الحسّ إلى عالم الإدراك المطلق. فالآية تُثبت أن الموت مخلوق كسائر المخلوقات، له غاية إلهية وهي الابتلاء والكشف عن جوهر العمل. وبهذا يصبح سرّ الرحيل هو لحظة كشف الحقيقة للإنسان، فالموت ليس انقطاع الحياة...

الإنسان والموت... الحيرة الأولى: 

منذ أن وُلد الإنسان وهو يعيش بين ميلادٍ لا يذكره، ورحيلٍ يخشاه ولا يدرك كنهه. يقف أمام الموت حائرًا، يتأمل صمته المهيب، ويتساءل عن سره الغامض الذي حيّر الفلاسفة وأهل الفكر.

فالموت في ظاهره انقطاع، وفي حقيقته انتقال، وفي عمقه سرٌّ من أسرار الله الكبرى. قال أمير المؤمنين (ع): «عَجِبتُ لِمَن يُنكِرُ المَوتَ وهو يَرى المَوتى».

ولا يوجد كائن على وجه الأرض إلا وقد تصرّمت أيامه، وانقضت لحظاته، فعاد أثرًا بعد عين وخبرًا بعد حضور. فالموت لا يفرّق بين صغير وكبير، ولا بين ملك وفقير، غير أنه في ميزان الإيمان ليس فناءً، بل عبورٌ إلى عالم آخر.

الرؤية القرآنية للموت: 

جاء القرآن الكريم ليكشف للإنسان حقيقة الموت، فيزيل عنه ثوب الرعب ويكسوه برد الطمأنينة.

قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185]

أي أن الموت ليس عدَمًا يُفني النفس، بل هو ذوقٌ وانتقالٌ لشعورٍ حيٍّ، إذ الذوق لا يكون إلا للحياة الواعية.

وقال سبحانه: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة: 11]

فالروح تُؤخذ كاملةً دون أن تُفنى، مما يدل على بقاء الذات الإنسانية بعد انفصالها عن الجسد.

وأكد القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: 

(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) [الزمر: 42]

فهنا يُقرن الموت بالنوم، وكلاهما تحوّل في الوعي والارتباط الجسدي، مما يكشف أن الموت ليس عدمًا بل تحوّلًا في النشأة والمرتبة.

ثم يصف الله تعالى حال الإنسان عند انكشاف الغطاء، فيقول:

(لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 22]

أي أنّ الموت هو لحظة انكشاف الوعي وزوال الحجاب عن الحقيقة، فتتجلّى للإنسان عوالم كان عنها غافلًا.

ومن هنا يتّضح أن الموت في القرآن ليس نهاية الوجود، بل بداية الوعي الكامل.

سرّ الرحيل: بين الغيب والفكر: 

الموت سرٌّ من أسرار الخلق الكبرى، حيّر العقول منذ فجر الفكر الإنساني.

القرآن الكريم يُرشدنا إلى أن السرّ يكمن في كون الموت انتقالًا من ضيق المادة إلى سعة الوجود، من عالم الحسّ إلى عالم الإدراك المطلق.

قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2]

فالآية تُثبت أن الموت مخلوق كسائر المخلوقات، له غاية إلهية وهي الابتلاء والكشف عن جوهر العمل.

وبهذا يصبح "سرّ الرحيل" هو لحظة كشف الحقيقة للإنسان، فالموت ليس انقطاع الحياة، بل تحوّل في الإدراك والوجود.

قال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر: 27–28]

فالروح تعود إلى الأصل بعد ارتياح ورضا، وهذا هو معنى السرّ العميق وراء الرحيل.

الروايات وتجلي المعرفة في سلوك المعصومين: 

لم يكن الموت عند أولياء الله لغزًا مرعبًا، بل حقيقة مشهودة يعيشونها بطمأنينة ويقين.

قال أمير المؤمنين (ع):

«فوالله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أمّه». 

وقال سيد الشهداء (ع):

«وإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا».

ورُوي عن النبي (ص) حديث جامع، حين سُئل عن الموت فقال:

«إن للمؤمنين الموت كأطيب رِيح يشمّها، فينعس بها نعسةً فيُقطع بها تعبُه وألمه، وللكافر كمثل لدغ الأفاعي ولسع العقارب».

وفي حديث آخر عن النبي (ص) وجبرائيل (ع):

«كفى بالموت طامةً يا جبرئيل... فقال: يا محمد، إن ما بعد الموت أطمّ وأطمّ». 

فهذا يُظهر كيف تجلّت معرفة “سرّ الرحيل” عمليًا في سلوك المعصومين، فقد عرفوا أنّ الموت عبور، وليس نهاية، فاستأنسوا به واطمأنّوا.

بين الخوف والرجاء: 

يبقى الموت سرًّا من أسرار الله، لا يُدرك بالعقل وحده، ولا يُكشف إلا بالإيمان والتقوى.

هو مرآة الوجود التي تُظهر للإنسان حقيقة نفسه، وتذكّره بضعفه وفقره، كما قال تعالى:

(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26–27]

وما أحوجنا اليوم أن نعيد قراءة الموت لا بوصفه عدواً للحياة، بل صديقًا للحقيقة، وأن نفهم سرّ الرحيل باعتباره عبورًا من عالم الزيف إلى عالم النور.

اللهم اجعل موتنا راحةً لنا من كل شر، ولقاءً بك يا أرحم الراحمين، واجعلنا ممن يُنادى عند الرحيل: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً».

اضف تعليق