القرآن الكريم أنصف المرأة وحررها من القيود الجاهلية، ومنحها كرامتها وحقوقها كاملة، مؤكداً أن العلاقة بين الرجل والمرأة تقوم على المودة، والرحمة، والعدل، والتكامل لا على الصراع أو التمييز. ولم يقف عند هذا الحد في إعطاء الحقوق للمرأة بل فرض عليها الحجاب لخلاصها من المفسدين وحمايتها من الاعتداء...

احتلت قضيّة المرأة مكانة واسعة فهي من أبرز القضايا التي شغلت الفكر الإنساني والديني على مرّ العصور، لما تمثّله من محورٍ أساسي في بناء الأسرة والمجتمع، ولارتباطها الوثيق بمفاهيم العدالة والكرامة الإنسانية. وقد اختلفت الرؤى والمناهج في تناول مكانة المرأة بين التيارات الفكرية والفلسفية والدينية، فبينما سعت بعض الاتجاهات إلى المساواة المطلقة بين الجنسين، تمسّكت أخرى بتفريقٍ يكرّس التبعية والضعف.

كانت المرأة سابقاً في مواقف مضطهدة ولا سيما في العصور الجاهلية، إذ يظل الرجل وجهه مسوّداً إذا بُشّر بالأنثى، وهذا ما ذكره الله تعالى في سورة النحل: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59))(1).

أي أن الرجل إذا اخبره احدهم بولادة بنت ظل وجهه متغيراً بسبب الغمّ والحزن الذي يصيبه من الخبر(2).

مما يعني ان الجاهليات القديمة من العرب واليونان قد استحقرت من مكانة المرأة وظلمت المرأة ظلماً مبيناً واستقبلتها بتهجّم وانكرت حقوقها بلا أهميةٍ أو اكتراث، لذلك من أبرز الحقوق التي اعطاها الاسلام للمرأة، هو حق الحياة استناداً إلى قوله تعالى: (وَإِذَا ٱلمَوءُۥدَةُ سُئِلَت (8) بِأَيِّ ذَنب قُتِلَت (9))(3).

كان الفلاسفة من اليونان من أبرز الفئات التي ظلمت حق المرأة وأهدرت كرامتها، فهي بحسب تصورهم كالشجرة المسمومة التي يكون ظاهرها جميل ولكن تموت العصافير في حال الأكل منها، فكانت كالحاجة التي يمكن أن تُباع وتُشترى في الأسواق وما كانت عليها مكانة المرأة من الذل والاستحقار وما كانت عليها مكانة المرأة(4).

ويُعدّ أول تعبير فلسفي يُقلّل من شأن المرأة هو ما نُسب إلى سقراط، حين قال: "النساء يلدن الأجساد، أما الفلاسفة فيلدون الأرواح" فوفق هذا التصور، تم حصر وظيفة المرأة في الإنجاب، بينما كانت المشاركة في الحياة العامة فقط على الرجال، واقتصر دور النساء على العمل في المجال المنزلي والخاص.

أما أفلاطون، فقد كان موقفه من المرأة متباينًا، إذ رأى أن الرجل كائن كامل قادر على السعي نحو الكمال المطلق، في حين لا يمكن للمرأة، حسب رأيه، بلوغ هذا الكمال إلا بمحاولة أن تصبح رجلاً، ومع ذلك، دعا في كتابه "الجمهورية" إلى إلغاء نظام العائلة، مما ينهي ملكية الرجل للمرأة، كما أقرّ بحقها في التعليم شأنها شأن الرجل لكنه عاد ليؤكد، في إطار نظرية التقمص، أن الأرواح التي تحيا حياة فاضلة تعود نجومًا في الحياة الأخرى، بينما الأرواح غير المستقيمة تُبعث من جديد في صورة نساء، وهو ما يعكس استمرار رؤيته الدونية للمرأة.

أما أرسطو، فكان له التأثير الأكبر في ترسيخ فكرة دونية المرأة عبر التاريخ، فاستنادًا إلى فلسفته في الهيولى والصورة، اعتبر أن المرأة تمثل الجانب المادي (الهيولى)، في حين يمثل الرجل الصورة أو الجوهر، وبناءً على ذلك، رآها ناقصة بطبيعتها لأنها لا تملك القدرة على إنتاج المني الذي يحمل الكائن الإنساني الكامل، إذ إن الرجل، في نظره، يقدّم الجوهر أو الروح، بينما تقتصر وظيفة المرأة على تغذية هذا الجوهر، ومن هنا وصفها أرسطو بأنها "ذكر غير خصب"، مؤكدًا في كتابه "السياسة" أن العلاقة بين الذكر والأنثى قائمة على التفوق والتبعية، فالذكر بطبيعته قائد، والأنثى تابعة له(5).

ولم تحصل المرأة على مكانتها الا بعد إن جاء القرآن ليُعيد للمرأة كرامتها التي سُلبت منها في الجاهلية، ويؤسس لمكانتها الإنسانية والاجتماعية على أساس المساواة في الكرامة والمسؤولية لذا فقد اعطاها العديد من الحقوق ليرفع من كرامتها بعد إن سُلبت منها في العصور السابقة ومن هذه الحقوق:

1- المساواة في الإنسانية والتكليف

أكد القرآن أن المرأة والرجل مخلوقان من نفس واحدة، قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)(6).

وهذا يثبت أن المرأة ليست كائنًا أدنى، بل تشترك مع الرجل في أصل الخلق والتكريم الإلهي والتكليف الشرعي، ففي هذه الآية يريد دعوتهم الى تقوى ربهم في أمر أنفسهم وهم ناس متحدون في الحقيقة الإنسانية من غير اختلاف فيها بين الرجل والمرأة والصغير والكبير والعاجز والقوي، حتى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة ولا يظلم كبيرهم صغيرهم في مجتمعهم الذي هداهم الله اليه لتتم سعادتهم، والأحكام والقوانين المعمولة بينهم التي ألهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم وحفظ وجودهم وبقائهم فرادى ومجتمعين، وفي هذه الآية الكريمة تعميم للناس جميعاً وليس الذين آمنوا فقط وهو من أوصاف الربوبية التي تتكفل أمر التدبير والتكميل، وظاهر السياق أن المراد بالنفس الواحدة هو آدم عليه السلام ومن زوجها زوجته، وهما أبوا هذا النسل الموجود والذي نحن منه وإليه ننتهي جميعاً(7).

2- الكرامة

جعل الله الجزاء في الآخرة مبنيًا على العمل لا على الجنس، فقال تعالى:

(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)(8).

فالمقياس هو الإيمان والعمل الصالح، مما يدل على المساواة الروحية والمعنوية بين الجنسي، أي أن من عمل صالحاً وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحاً فمعيشته ضنك لا حياة فيها ولا خير(9).

3- الحقوق الاجتماعية والأسرية

منح القرآن المرأة مكانة راقية في الأسرة والمجتمع، فجعل لها حقوقًا مالية ومدنية، وأقرّ ذمتها المستقلة في الملك والتصرف، ومن أبرز مظاهر تكريمها:

-حقها في الميراث: كما ورد في قوله تعالى: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (7))(10)، وهو الأمر الذي أنكروه عنها في عصور الجاهلية، ففي هذه الآية تشريع لأحكام الإرث، فالنصيب هو الحظ والسهم والتركة مما بقي من مال الميت كأن يتركه ويرتحل، والأقربون هم القرابة الأدنون، واختيار هذا اللفظ على مثل الأقرباء وأولوا القربى ونحوهما لا يخلو من دلالة على أن الملاك في الإرث أقربية المتوفى، وفي هذه الآية يظهر إعمام لجميع النساء دون تخصيص أو تقييد (11).

- حقها في المهر: كما ورد في قوله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4))(12).

فالصداق هو المهر، والنحلة هي العطية من غير مثامنة، وفي إضافة الصدقات إلى ضميرهن دلالة على أن الحكم بوجوب الإيتاء مبني على المتداول بين الناس من سنن الإزدواج من تخصيص شيء من المال أو أي شيء له قيمة، مهراً لهنّ كأنه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع، فإن المتداول بين الناس هو أن يكون الطالب للإزدواج هو الرجل، ولعل إمكان توهم عدم جواز تصرف الزوج بالمهر اساساً حتى برضا من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في الآية المذكورة(13).

- أعطى للمرأة مكانة في دورها الأسري: لقد أعلى القرآن من شأن الأمومة، فقال تعالى:

(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا)(14)، وجعل من البرّ بالأم قرين العبادة، مما يبرز مكانة المرأة كأم ومربية للأجيال.

إذ أمر القرآن الكريم بالإحسان إلى المرأة كأم كما في قوله تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوۤاْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴿٢٤﴾)(15).

ومعنى قوله تعالى أن الله تعالى يأمركم أن لا تعبدوا إلا إياه من خلال اخلاص العبادة له وهي أعظم الأوامر الدينية وأوجب الواجبات كما أن معصيته من أكبر الكبائر الموبقة، وبعد هذا التوحيد الالهي الخالص له وحده، أمر الله تعالى الإحسان للوالدين وجعل عقوقهما من أكبر الكبائر أيضاً من بعد الشرك بالله، ولذلك ذكره بعد حكم التوحيد وقدمه على باقي سائر الأحكام المذكورة إضافة إلى وجوب إكرامهما ورعاية الأدب التام في معاشرتهما وخاصة وقت يشتد حاجتهما إلى ذلك وهو وقت بلوغ سن الكبر عند أحدهما أو كليهما، والتواضع والخضوع لهما وذكر تربيتهما ودعوة الله لهما بأن يرحمهما كما رحماك وربياك صغيراً(16).

وكذلك أمر بالإحسان إليها كزوجة كما في قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231))(17).

أي إن القرآن الكريم أنصف المرأة وحررها من القيود الجاهلية، ومنحها كرامتها وحقوقها كاملة، مؤكداً أن العلاقة بين الرجل والمرأة تقوم على المودة، والرحمة، والعدل، والتكامل لا على الصراع أو التمييز.

ولم يقف القرآن الكريم عند هذا الحد في إعطاء الحقوق للمرأة بل امتد إلى اكثر من ذلك كما يلي:

- فرض عليها الحجاب لخلاصها من المفسدين وحمايتها من الاعتداء عليها استناداً إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (59))(18).

هذه بعض من نماذج لتكريم المرأة في القرآن الكريم وهنالك الكثير غيرها ولكن لا يسع لها البحث، لذا لقد اقتصرت الباحثة على ذكر هذه النماذج من الآيات الكريمة التي حثّ القرآن فيها على تكريم مكانة المرأة.

لذا فإن المتدبر للقرآن الكريم يجد أنه أعطى للمرأة حديثٌ مستفيض، يبين فيه ما لها وما عليها من حقوق وواجبات، وقد رفع من شأنها وأثنى عليها بكل ما تستحقه من تكريم، وشملها في جميع تشريعاته بالعدل والرحمة، وساوى بينها وبين الرجل في معظم أمور الحياة أو شؤونها، كذلك يبين القرآن الكريم أن الرجل والمرأة كلاهما من أصلٍ واحد، ومتساويان من حيث الطبيعة البشرية ولا فضلَ لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى والاعمال الصالحة، وما كان يفعله أهل الجاهلية من قتلهم للإناث وكراهيتهم لها ما هو إلا عمل فاحش ومنكر وقبيح، إذ أن منح الإناث أو الذكور أو كلاهما هو أمر يعود لله تعالى جل شأنه وتعالى ذكره، ولا علاقة للبشرية في ذلك(19).

....................................

(1) سورة النحل: آية 58-59.

(2) الأنصاري، أبي عبدلله محمد بن احمد: تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: محمد بيومي وعبدلله المنشاوي، ج6، مكتبة جزيرة الورد-مصر، ص121.

(3) سورة التكوير: آية 8-9.

(4) خميسي نجاة ورامي أحلام: صورة المرأة في القرآن الكريم (سورة النور أنموذجاً)، رسالة ماجستير، إشراف: رابحي عمرو، كلية اللغات والآداب-الجزائر، ص17.

(5) https://www.al-akhbar.com/Literature_Arts/245773 

(6) سورة النساء: آية 1.[6] 

[7] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن: ج4، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات-لبنان،1997، ص139.

(8) سورة النحل: آية 97.

[9] الأنصاري، أبي عبدلله محمد بن احمد: تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، مصدر سابق، ص164. 

(10) سورة النساء: آية 7.

(11) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن: ج4، مصدر سابق، ص205-206.

(12) سورة النساء: آية 4.

[13] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن: ج4، ص175.

(14) سورة الأحقاف: آية 15.

(15) سورة الإسراء-آية 23-24.

[16] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن: ج13، ص78-79.

[17) سورة البقرة-آية 232-.

(18) سورة الأحزاب-آية 59-

[19] محمد الغزالي وآخرون: المرأة في الإسلام، مطبوعات أخبار اليوم-قطاع الثقافة، ص44-47.

اضف تعليق