q
التعامل معها بوعي يحول التناقض القائم الى تكامل، والتصادم الى تعايش، والتعصب الى تسامح. فالتعايش المشترك هو هدف يتطلع اليه كل العقلاء في المجتمع المتعدد الديانات والثقافات والإثنيات، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال إشاعة مفهوم الاعتدال والوسطية لتحقيق التسامح بين ابناء المجتمع...
المدرس الدكتور سليم كاطع علي/مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ــ جامعة بغداد

 

المقدمة

شهد العراق بعد عام 2003 أحداث عنف وتحولات شديدة الخطورة على مختلف الصُعد، إذ ان الإرث الاستبدادي الذي خلفه النظام السياسي السابق، وفشل القيادات السياسية في إدارة الدولة بعد نيسان 2003، كان عاملاً رئيساً في عدم تحقيق الاندماج السياسي والاجتماعي بين أبناء البلد الواحد، وعدم القدرة على بناء دولة المؤسسات القادرة على تعزيز روح المواطنة والتسامح، الامر الذي دفع بالأفراد الى اللجوء نحو تغليب الولاءات والانتماءات الفرعية الضيقة كالقبيلة والطائفة والقومية مبتعدين بذلك عن الدولة ومؤسساتها، وهو ما جعل الولاء للعناوين الفرعية هو الولاء الرئيس على حساب الولاء للوطن والدولة.

ان تجاوز آثار الماضي وتداعياته السلبية، يتطلب بناء الثقة بين مختلف اطياف الشعب العراقي من خلال إرساء مفاهيم الاعتدال الموضوعي والوسطية الفكرية والسياسية، والابتعاد عن طرح الاهداف والمتطلبات التعجيزية او غير الممكنة عملياً عبر التقارب والتسامح وبناء الثقة المتبادلة ونسيان آلام الماضي وصولاً الى تجذير مفهوم التعايش السلمي في إطار الوطن الواحد.

إشكالية الدراسة:

يشكل الاعتدال والوسطية عماد بناء المجتمع كونه منهج يدعو الى التسامح والمساواة ونبذ التفرقة والتطرف، وصولاً الى تجاوز حالات الاختلاف والنزاع بما يحقق التعايش والوئام الوطني. ومن هنا تبرز الاشكالية من السؤال حول دور منهج الاعتدال والوسطية في تحقيق مبدأ التعايش السلمي في العراق؟ وما هي آليات تطبيق ذلك المنهج فكراً وممارسةً؟.

فرضية الدراسة:

تنطلق الدراسة من فرضية مفادها ان هناك أسس وآليات واقعية ومتوازنة تسهم في تحقيق مبدأ التعايش السلمي في العراق عبر ترسيخ قيم الاعتدال والوسطية في المجتمع، وبما يساهم في تعزيز الاندماج والوحدة الوطنية.

وفي ضوء ما تقدم، فقد تم تقسيم الدراسة على ثلاثة محاور رئيسة وكما يلي:

أولاً: الاعتدال والوسطية: (المفهوم والخصائص)

ثانياً: إشكالية التعايش السلمي في العراق بعد عام 2003

ثالثاً: آليات تحقيق التعايش السلمي في العراق

أولاً: الاعتدال والوسطية: (المفهوم والخصائص)

ان الاعتدال لا يتقيد بالظروف او الحالات التي يتطور من خلالها المجتمع، ولا بالنظريات الفلسفية المطروحة وفقاً لحاجات المجتمع، لأن الاعتدال يمثل روح سامية تشرف على العقل والنفس البشرية وتوجههما في الاتجاه الصحيح دون ان تبعدهما عن العمل لما فيه رقي الفرد والجماعة، فكل من يتخذ الاعتدال منهجاً وسلوكاً فإنما يعمل في الحقيقة لخدمة النوع الإنساني من خلال احقاق واشاعة الحق والعدل والمساواة وبناء المجتمع على اسس التمدن والرقي والمواطنة بعيداً عن شوائب الغلو والحقد والتطرف.

ولا شك فان سيادة مشاعر الكراهية والحقد والتطرف التي تتولد بين الناس في مختلف طبقاتهم، هي من الامراض التي تفتك بجسد الامة، وعلى الرغم من عدم انكار وجود الاختلاف والتناقض في المصالح والمنافع والمزاحمة على المراكز السياسية والاجتماعية بين الناس، إلا ان الغلو والتطرف في ذلك سوف يكون عاملاً لقطع كل علاقة قائمة بين افراد المجتمع, وهنا يأتي دور الاعتدال لما له من نفوذ وتأثير قوي وفعال في تهذيب الاخلاق وتلطيف الامزجة الحادة والطباع الغليظة، وفي احلال السلام والامن في بيئة مليئة بالأحقاد والمشاكل، كون الاعتدال من اقوى الاساليب في تقريب الناس بعضهم من بعض من خلال دوره في تسوية الاختلافات والمشاكل القائمة بين الخصوم والمتنافرين بسبب تباين المصالح والمنافع(1).

اما الوسطية فهي مأخوذة من الوسط وهو لغة بين طرفي الشيء أو هو النصف يقال "جلس فلان وسط القوم"، أي صار في وسطهم، وشيء وسط بين الجيد والرديء والشجاعة وسط بين التهور والجبن والاعتدال في النفقة وسط بين الاسراف والتقتير او البخل، والتوسط بين الناس هي الوساطة والوسط من كل شيء أعدله وخيره، وهو معنى قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)(2).

فالوسطية لا تبتعد عن كونها التوسط والاعتدال والاقتصاد، فالوسطية في معناها العام تعني الاعتدال في الاعتقاد والمواقف والسلوك والنظام والاخلاق. فالإسلام بالذات هو دين معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء من الحقائق، فليس فيه مغالاة ولا تطرف او شذوذ في الاعتقاد، ولا تهاون ولا تقصير ولا استكبار ولا خنوع ولا استسلام، إذ لا خضوع ولا عبودية لغير الله تعالى، ولا تشدد او احراج ولا تساهل او تفريط في حق من حقوق الله تعالى ولا حقوق الناس، وهو معنى الصلاح والاستقامة وتصفية النفس من الاحقاد والابتعاد عن اضمار العداوة والكراهية والبغضاء للآخرين(3). والوسطية تعني ايضاً الاعتراف بالحرية للآخرين ولاسيما الحرية الدينية وهو ما شرعه الاسلام واكد عليه في قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد إستمسك بالعروة الوثقى لا إنفصام لها والله سميع عليم)(4).

ان الاسلام الحنيف خاتم الاديان والرسالات السماوية منذ فجر دعوته تميز بإحترام حقوق الانسان والتوسط والاعتدال والسماحة واليسر(5)، لتكون جميع الاحكام سهلة التطبيق والممارسة بين مختلف طبقات المجتمع، قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما إكتسبت)(6)، كما عارض الاسلام التطرف والتعصب ودعا الى احترام التعددية الثقافية والدينية والحضارية من خلال الدعوة الى الاستقامــة والاعـتـــدال والوسطية فكراً وممارسةً، قال تعالى: (يا اهل الكتاب لا تغلو في دينكم)(7). فضلاً عن تأكيد الاسلام على دفع الحرج والمشقة في جميع الشرائع والاحكام الالهية والانظمة الوضعية لكل زمان ومكان على أساس من الحق والعدل والاعتدال والحكمة والعقل ومراعاة اصول الفطرة الانسانية وظروف الحياة الواقعية كلما إشتدت الازمات واستحكمت المشكلات وتكاثرت الهموم والقلاقل والاضطرابات، فالإسلام في كل الاحوال لا يقبل للإنسان ان يفكر فقط بالذات وإنما عليه ان يفكر بذاته وبالإمة التي يرتبط بها(8)، وهو معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وكونوا مع الصادقين)(9).

فالإسلام من خلال تأكيده على الوسطية والاعتدال يرفض كل اشكال التعصب والتطرف ضد الآخرين، إذ لا رفض لهم ولا إكراه او إرهاب او ترويع بغير حق(10). وهو ما يعني ان الوسطية هي مطلب شرعي اصيل ومظهر حضاري رفيع لتحقيق التكامل والانسجام بين الجماعات وتحقيق التعاون بينهم، وان الوصول الى هذا الهدف هو البوابة لتجاوز التناقض في السلوكيات والممارسات الاجتماعية والتعقيدات والامراض النفسية والاجتماعية، لان كل افراط او شذوذ يؤدي الى الاضطراب وكل تفريط في اداء واجب يكون سبباً في إثارة الخصومات والمنازعات بين الافراد(11).

ثانياً: إشكالية التعايش السلمي في العراق بعد عام 2003

ان طبيعة المجتمع العراقي القائمة على التعدد والتنوع واختلاف المكونات الاجتماعية والثقافية التي تبدأ بالقومية والدين واللغة وتنتهي بالقبيلة والطائفة، وعجز الدولة عبر مؤسساتها المختلفة من استيعاب هذه التنوعات الفرعية ودمجها في الإطار الوطني الجامع وجعلها عامل قوة للمجتمع بدلاً من جعلها عامل فرقة وتجزئة للنسيج المجتمعي(12). إنعكست سلباً على النسيج الاجتماعي العراقي، مما ولد روح الانتقام والتعصب وغياب الثقة المتبادلة بين مختلف أطياف الشعب العراقي، الامر الذي ادى الى تعزيز الصراع والاختلاف بين أبناء البلد الواحد وهو ما عرض الامن والسلم والتعايش السلمي لمخاطر عدة.

وكان من نتائج ذلك أن بدأت الرغبة في العيش المشترك تتضاءل عند افراد المجتمع العراقي. ولعل هذا الامر كان واضحاً لدى الاطراف الكردية التي اعربت عن رغبتها في الإستقلال عن الدولة العراقية منذ كانون الثاني عام 2005، إذ نظمت (حركة إستقلال كردستان) في كردستان العراق استفتاء غير رسمي على إستقلال الاقليم، وبموافقة وزارة الداخلية في الإقليم، وكان السؤال المطروح: هل تريد بقاء كردستان ضمن الدولة العراقية؟ أم تريد كردستان مستقلة؟ وكانت النتائج مؤيدة بنسبة عالية جداً للإستقلال(13). الامر الذي يعكس مدى عمق وخطورة الازمة التي يعاني منها النسيج المجتمعي العراقي، مما يعيق الوصول الى التعايش والتسامح بين الافراد والجماعات.

ان المجتمع العراقي القائم على التعدد والتنوع يواجه اليوم العديد من مشاكل الاختلاف الديني والتنوع الثقافي والتباين القومي بسبب تباين الخلفيات المؤسسة لهذا التنوع، وهي مشاكل يمكن التعامل معها بوعي يحول التناقض القائم الى تكامل، والتصادم الى تعايش، والتعصب الى تسامح. فالتعايش المشترك هو هدف يتطلع اليه كل العقلاء في المجتمع المتعدد الديانات والثقافات والإثنيات، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال إشاعة مفهوم الاعتدال والوسطية لتحقيق التسامح بين ابناء المجتمع، إذ ان من ضرورات لغة الاعتدال والوسطية ترسيخ ثقافة التسامح عبر معرفة عومل الصراع ومسبباته والتخلص منها ليكون الطريق سالكاً نحو علاقات قائمة على الثقة وقبول الآخر والحوار المتبادل.

فالعراق وعلى الرغم من مرور وقت طويل نسبياً على تغيير النظام السابق لا يزال مفهوم التعايش السلمي بين مكوناته شبه غائب، فلا تزال تركة الماضي تدلي بظلالها على الشعب العراقي، ولم يجد هذا الشعب من يعمل على تحقيق التعايش السلمي واعادة بناء المجتمع العراقي المدمر نفسياً ومادياً جراء النزاعات العنيفة، بل على النقيض من ذلك تم التقوقع خلف حجج واهية وإلقاء اللوم على الاطراف الاخرى سواء كانت مشاركة ام غير مشاركة في العملية السياسية والسعي نحو تحقيق المصالح السياسية الضيقة على حساب مصلحة الوطن والمواطن(14). الامر الذي يستدعي من جميع الاطراف التفكير العميق من اجل تجاوز الاشياء غير المرغوبة وايجاد الحلول للمشاكل التي تعصف بالمجتمع من خلال انتهاج عمليات حيوية وتكييفية تستهدف بناء وترميم البنية الممزقة للعلاقات بين الافراد والحياة المجتمعية، من خلال اعتماد منهج الاعتدال والوسطية لخلق نوع من التفاهم والتوافق المجتمعي كمخرج من الازمات الحاصلة في المجتمع عبر انتهاج آليات وحلول ناجعة لإشاعة التعايش والسلم الاجتماعي.

فالمشكلة الخطيرة التي يعيشها المجتمع العراقي تتمثل في غياب الوعي بطبيعة المخاطر المحيطة بالعراق وتجنب الاعتراف بها، وهو ما يعكس حالة من التخبط الكبير التي تسود القيادات السياسية. فكل طرف من الاطراف يحمل في عقليته فكراً احادياً تجاه الطرف الآخر، بمعنى ان كل طرف يرى انه يمثل الخير والاخر يمثل الشر، وان خطابه الفكري والسياسي غير قابل للنقد. إذ ان الفكر اليقيني المطلق هو فكر إمحائي لا يؤمن بالآخر، ويسعى الى إلغاء الفروق داخل المجتمع بكياناته ومكوناته وأفراده وسجن التعددية وإقصاء الخصوصيات(15).

وإزاء تلك الثنائية التطرفية ثنائية (الخير والشر) التي مزقت المجتمع العراقي يأتي دور الاعتدال والوسطية لعقلنة التناقض المفتعل بين القيادات السياسية من جهة، واطياف المجتمع العراقي من جهة اخرى بهدف ايجاد البديل العقلاني الذي يضمن استمرار الحياة والتعايش السلمي.

فالاعتدال والوسطية يُعد منهج اكثر انسانية وعقلانية وواقعية من خلال رفضه للعنف والتعصب مهما كانت دوافعه، وهو منهج يؤمن بان خلاص الانسان فرداً وجماعةً يكمن اولاً وقبل كل شيء في تنقية ذاته النفسية والمعتقدية من الافكار الهدامة الكامنة فيها، ولعل افضل صورة تعبر عن هذه الحقيقة هي قول الله تعالى: (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(16)، وهنا يأتي دور النخب الفاعلة الدينية والثقافية والسياسية في تعزيز الحياة المجتمعية والاخذ بها نحو اشاعة التسامح والتعايش السلمي, وعليه فان الأخذ بالاعتدال منهجاً للحياة سواء في السلوك ام الفكر هو احد الدعائم الرئيسة لتحقيق الانسجام الكامل بين طوائف المجتمع مهما كانت لغتها ودينها ومذهبها في اطار الهوية الوطنية الواحدة، وهو ما يعني الحاجة الى تأسيس هوية عراقية موحدة للجميع تقوم على مبدأ وحدة الوطن ورفض التفريق بين العراقيين على اساس الدين او القومية او المذهب، ضماناً لوحدة وتلاحم وتعايش فسيفساء المجتمع العراقي.

ثالثاً: آليات تحقيق التعايش السلمي في العراق

ان التركيبة المجتمعية التي يتميز بها العراق والقائمة على التنوع الطائفي والقومي والديني، لم تساهم وعلى مدى عقود طويلة من الزمن في تحقيق الوحدة الوطنية والتقدم والتطور في البلد، بل أحدثت فجوة كبيرة في العلاقات القائمة وعلى مختلف الصُعد، الامر الذي أثر على مسار العملية السياسية، وادى الى قيام نزاعات وتقاطعات عنيفة ولاسيما النزاعات القومية والطائفية(17).

وعليه فان عملية تحقيق التعايش السلمي في العراق تحتاج الى بذل جهود كبيرة من اجل الوصول الى اطار عام واساس متماسك لإعادة هيكلة وبناء المجتمع من جديد، فالحساسية المفرطة بين الجهات التي هي في حالة من التخاصم والاختلاف، والشعور بالحقد والكراهية وفقدان الثقة تجاه بعضهم البعض يستدعي العمل الجاد لإعادة اللحمة فيما بينهم، من خلال تحقيق التعايش السلمي ضمن الوطن الواحد عبر اعطاء الاولوية لإشاعة منهج الاعتدال والتسامح بين ابناء الوطن الواحد وصولاً الى تحقيق المصلحة الوطنية الشاملة على حساب المصالح السياسية والطائفية والعراقية الضيقة,

وانطلاقاً من ان مواجهة ظاهرة الغلو والتطرف لا تتم إلا من خلال إحياء دور العقل ودراسة الظروف الاجتماعية التي ساهمت في تفشي تلك الظاهرة والتعرف على اسبابها وسبل مواجهتها، يأتي منهج الاعتدال والوسطية كونه من السبل والآليات الناجعة للقضاء على تلك الظواهر الشاذة في المجتمع.

وفي هذا الاطار تبرز ثمة معالجات متوازنة وواقعية، يمكن الأخذ بها لتحقيق التعايش السلمي في العراق وصولاً الى الاندماج الاجتماعي في العراق وذلك عبر مجموعة من الاجراءات والوسائل من خلال اعتماد منهج الاعتدال والوسطية سواء على صعيد الفكر او الممارسة، لما له من تأثير مهم في صيانة السلم الاهلي وتحقيق العيش المشترك في هذه المرحلة الحرجة، وهي:

1. ان طبيعة النظام السياسي القائم في العراق بعد عام 2003، ومن خلال الخطاب الموجه للشعب لعب دوراً سلبياً في تمزيق التعايش والاندماج بين أفراد المجتمع، عبر قيامه على أسس المحاصصة والطائفية والقومية، الامر الذي ساهم في خلق هويات طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية على حساب الهوية الوطنية العراقية الجامعة، مما افقد النظام إمكانية بناء مؤسسات الدولة القوية، والحفاظ على اهم مقومات التسامح والسلم الأهلي، وهو ما يتطلب مراجعة تلك السلبيات والابتعاد قدر المستطاع عن كل ما يعزز روح التطرف والانتقام، وتعزيز بدلاً من ذلك الخطاب الوطني الموحد لعموم الشعب.

2. تبرز ضرورة وضع دستور جامع وقانون موحد لجميع فئات المجتمع على اساس المساواة والعدل، لا على اساس إمتيازات الطوائف والإثنيات والحصص والتقسيمات البعيدة عن جوهر المواطنة بالمفهوم المعاصر، بل على اسس المشتركات العابرة للهويات الفرعية وفي إطار الهوية الوطنية الشاملة(18).

3. التأكيد على ضرورة إعادة بناء المنظومة الفكرية والثقافية للفرد كونه النواة الاولى للمجتمع والدولة، من خلال غرس المفاهيم الصحيحة والاهتمام بالتنشئة الاجتماعية للفرد عبر تشجيعه على التمسك بالطريق الصحيح الذي اكد عليه الدين الاسلامي الحنيف.

4. زيادة الوعي السياسي والاجتماعي والفكري لدى ابناء المجتمع من خلال إبراز قيم الوسطية والاعتدال ودورها في التعرف على الاحداث والمشكلات بنظرة واقعية لا مثالية، عبر ترسيخ مبادئ الحوار الديمقراطي وقبول واحترام الرأي والرأي الآخر والتعايش معه فكرياً وسياسياً حتى لو كان هذا الرأي معارضاً(19)، بعيداً عن احادية الرأي والتطرف المقيت، وصولاً الى قناعات مشتركة تساعد على بناء تصورات ومقترحات لكيفية مواجهة تلك المشكلات مستقبلاً.

5. اهمية التأكيد على تجاوز الخلافات والتناقضات الموجودة في المجتمع، ولاسيما الدينية والسياسية، عبر اشاعة قاعدة التقريب الفكري بين المذاهب المختلفة من خلال تعميـق التعاون في المشتركات وخلق الثقـة المتبادلة بين الاطـراف المتناقضة، وتجاوز مجالات الخلاف والتناقض(20)، وهنا يأتي دور المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في الاطلاع بهذه المهمة من خلال التثقيف وزيادة الوعي بأهمية وحدة الاديان، والتحذير من خطورة التشرذم والانقسام الديني والسياسي القائم في المجتمع، وهو ما يسهم في بناء دولة المواطنة وعدم التمييز والتفرقة بين ابناء المجتمع، إنطلاقاً من ان الديمقراطية تعني العدالة والمساواة بين كافة الناس في الحقوق والواجبات بعيداً عن الانانية وحب الذات وإغفال حقوق الآخرين(21).

6. ايجاد آليات بحثية علمية تساهم في نشر مبادئ العدل والمساواة والتسامح، والترويج لقيم الاعتدال والوسطية في المجتمع، ودورها في وضع الاسس والمفاهيم الصحيحة لتطور المجتمع وفقاً لنهج الاعتدال في الفكر والممارسة، وبعيداً عن الشعارات والمثاليات التي قد تعمق من الخلاف والتناقض بين افراد المجتمع، مع إمكانية تقنين ذلك قانونياً من خلال تشريع قانون يجرم كل من يخالف منهج الاعتدال والوسطية، ويدعو الى التطرف والطائفية بكافة اشكالها.

7. تُعد وسائل الاعلام المتنوعة اليوم هي اخطر مادة ثقافية تؤثر في ميول الافراد ورغباتهم وافكارهم وعواطفهم، من خلال استغلالها من قبل بعض الاطراف ضد اطراف اخرى لنشر ما يريدون من اباطيل وتشويه الحقائق وإشاعة الاكاذيب والفتن(22). الامر الذي يتطلب العمل الجاد على تقويم وإعادة تأهيل وسائل الاعلام المعاصرة، ولاسيما المليئة بالانحرافات السلوكية والفكرية وضرورة الانتباه الى وسائل الاعلام المرئية منها كونها وسيلة موثوقة من وسائل التثقيف والترويج، فضلاً عن وسائل الاعلام المسموعة والمقروءة الاخرى.

لا شك ان تلك المعالجات والمقترحات لا يمكن ان ينتج عنها أي تقدم في الاتجاه الصحيح إذا لم يكن هناك توحد في الرؤى والاهداف على المستوى الوطني، وضرورة إدراك واستيعاب طبيعة التحديات والمخاطر التي يواجهها البلد، بدءاً من مستوى النخب السياسية التي تتولى إدارة البلد عبر انتهاج منهج وإطار جديد في طبيعة الخطاب السياسي العراقي المعاصر القائم على اساس سمو وعلوية طرف على الاطراف الاخرى، وعدم تقبل النقد للآراء والتوجهات المطروحة وكانه أشياء مقدسة لا يمكن المساس بها. فضلاً عن ذلك فان مختلف شرائح المجتمع العراقي مطالبة بالعمل على ترصين الجبهة الداخلية، والنأي بنفسها عن عوامل ومسببات الفرقة والانقسام، والتوجه نحو عوامل الوحدة والتعايش السلمي، بدءاً من العائلة وحتى المستويات الاخرى من المجتمع، كون المسؤولية ليست منفردة وانما هي مسؤولية تضامنية ــ تشاركية في سبيل الوصول بالبلد الى بر الامان.

الخاتمة

ادى التغيير السياسي الذي شهده العراق بعد نيسان 2003 الى أحداث وتداعيات تجاوزت في ابعادها وتأثيراتها السياسية لتتطور وتصبح فيما بعد ازمات ومشكلات مزقت النسيج المجتمعي للشعب العراقي، عبر سيادة مبدأ التشدد والتطرف الذي حمل في طياته الاحقاد والضغائن والغلو وعلى كافة المستويات والصُعد سواء السياسية ام الدينية ام الاجتماعية، وهو ما عزز من الانقسام والتشظي وغياب الثقة المتبادلة بين افراد المجتمع.

ولاشك فان البيئة السياسية التي ولدت بعد التغيير وطبيعة الخطاب السياسي والديني الذي تم تبنيه في هذه المرحلة لعب دوراً لا يمكن تجاهله في تكريس ثقافة التطرف والطائفية بكافة اشكالها، واستغلال كل طرف من الاطراف المختلفة والمتعارضة الفرص السانحة للحصول على اكبر قدر من المكاسب والمصالح السياسية والاجتماعية، والدفع باتجاه تعزيز الولاءات الطائفية والدينية والقومية الضيقة على حساب الولاء الوطني الجامع الشامل. ومما عزز من خطورة هذه المرحلة انها انتجت سلوكيات وممارسات لم تكن مألوفة من قبل على صعيد المجتمع العراقي، غلب عليها طابع الصراع والتطرف والاحقاد والكراهية للطرف الآخر، الامر الذي ساهم بدوره في زعزعة السلم الاهلي والاندماج الوطني وغياب روح المواطنة بين فئات المجتمع.

وعلى الرغم من عدم إنكار خطورة المرحلة الراهنة وبكافة مستوياتها، فان التطلع نحو المستقبل يحتم على الجميع التوجه نحو اجراء مراجعة دقيقة وموضوعية بعيدة عن الانتماءات الضيقة لطبيعة ومخاطر التحديات والتهديدات التي تواجه الوحدة الوطنية في العراق. إذ ان إدراك تلك المخاطر وتداعياتها ربما يشكل المنطلق والبوابة الرئيسة التي من خلالها يمكن وضع الحلول والآليات الناجعة للحيلولة دون تفاقم تلك المشكلات وتحولها الى ازمات من الصعوبة ايجاد الحلول لها.

وفي هذا السياق، فان تجاوز حالة الانقسام والتفكك الاجتماعي والسياسي الذي يعاني منه المجتمع العراقي يتطلب قدراً كبيراً من العقل والحكمة، بهدف إعادة بناء النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية وإشاعة مبدأ التعايش السلمي بين الافراد، من خلال التأكيد على سيادة قيم الاعتدال والوسطية كونها لغة العصر التي يجب ان تسود، وتغليب مفهوم الحوار والتسامح والتقارب في العلاقات واحترام الرأي والرأي الآخر، والابتعاد عن الخطابات الطائفية المجزئة للنسيج الاجتماعي.

* البحث المقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

......................................
المصادر
1. القرآن الكريم.
2. أبو اليزيد علي المتيت، النظم السياسية والحريات العامة، الطبعة الرابعة، الاسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، 1989.
3. أزهار جشي عواضه، ازهار المواعظ والحكم، الطبعة الاولى، بيروت، دار الحق للطباعة والنشر والتوزيع، 2002.
4. السيد محمد باقر الحكيم، المرجعية الدينية، الطبعة الاولى، النجف الاشرف، مؤسسة شهيد المحراب للتبليغ الاسلامي، 2005.
5. السيد صدر الدين القبانجي، الحوزة العلمية في المعترك الثقافي والسياسي، الطبعة الاولى، النجف الاشرف، مؤسسة إحياء التراث الشيعي، بلا.
6. شارل فاجنر، روح الاعتدال، ترجمة: وسيلة محمد، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012.
7. سليم مطر، جدل الهويات (عرب، اكراد، تركمان، سريان، يزيدية... صراع الانتماءات في العراق والشرق الاوسط)، بلا، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003.
8. صحيفة الحياة اللندنية، العدد 15281، 2/ كانون الثاني/2005.
9. رانيا محمد عزيز، الوسطية في الترفيه بين المشروع والممنوع، مجلة الدراسات الاسلامية والعربية للبنات، الاسكندرية، المجلد الثالث، العدد (26)، 2010.
10. عبد الجبار احمد عبد الله، آليات المصالحة الوطنية في العراق، مجلة شؤون عراقية، مركز دراسات العراق، العدد الاول، تشرين الاول، 2008.
11. عبد الحسين شعبان، جدل الهويات في العراق: الدولة والمواطنة، الطبعة الاولى، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010.
12. فهيل جبار جلبي، المصالحة الوطنية في العراق: دراسة سياسية حول الوضع العراقي بعد 2003، بلا، دهوك، جامعة دهوك، مركز دراسات السلام وحل النزاعات، 2014.
13. مجموعة باحثين، حقوق الانسان: الرؤى العالمية والاسلامية والعربية، الطبعة الثانية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007.
14. جون العتابي، الوسطية والاعتدال في فكر الشهيد السيد محمد باقر الحكيم، على الموقع التالي في الانترنت
http://al-hakim.com/?p=967d
................................
الهوامش
(1) شارل فاجنر، روح الاعتدال، ترجمة: وسيلة محمد، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012، ص111.
(2) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية (143).
(3) د. رانيا محمد عزيز، الوسطية في الترفيه بين المشروع والممنوع، مجلة الدراسات الاسلامية والعربية للبنات، الاسكندرية، المجلد الثالث، العدد (26)، 2010، ص3.
(4) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية (256).
(5) للمزيد من التفاصيل ينظر: مجموعة باحثين، حقوق الانسان: الرؤى العالمية والاسلامية والعربية، الطبعة الثانية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، ص 85 وما بعدها.
(6) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية (286).
(7) القرآن الكريم، سورة النساء، الآية (171).
(8) السيد صدر الدين القبانجي، الحوزة العلمية في المعترك الثقافي والسياسي، الطبعة الاولى، النجف الاشرف، مؤسسة إحياء التراث الشيعي، بلا، ص 335.
(9) القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية (119).
(10) للمزيد من التفاصيل ينظر: أزهار جشي عواضه، ازهار المواعظ والحكم، الطبعة الاولى، بيروت، دار الحق للطباعة والنشر والتوزيع، 2002، ص 229 وما بعدها.
(11) د. رانيا محمد عزيز، مصدر سبق ذكره، ص5.
(12) للمزيد من التفاصيل حول ذلك ينظر: سليم مطر، جدل الهويات (عرب، اكراد، تركمان، سريان، يزيدية... صراع الانتماءات في العراق والشرق الاوسط)، بلا، بيروت، المؤسســة العربيـة للدراســات والنشر، 2003، ص 35 وما بعدها.
(13) صحيفة الحياة اللندنية، العدد (15281)، 2/ كانون الثاني/2005.
(14) فهيل جبار جلبي، المصالحة الوطنية في العراق: دراسة سياسية حول الوضع العراقي بعد 2003، بلا، دهوك، جامعة دهوك، مركز دراسات السلام وحل النزاعات، 2014، ص 18.
(15) عبد الحسين شعبان، جدل الهويات في العراق: الدولة والمواطنة، الطبعة الاولى، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010، ص 36.
(16) القرآن الكريم، سورة الرعد، الآية (11).
(17) فهيل جبار جلبي، مصدر سبق ذكره، ص 19.
(18) عبد الحسين شعبان، مصدر سبق ذكره، ص ص 97 ـ- 98.
(19) السيد محمد باقر الحكيم، المرجعية الدينية، الطبعة الاولى، النجف الاشرف، مؤسسة شهيد المحراب للتبليغ الاسلامي، 2005، ص 159.
(20) د. جون العتابي، الوسطية والاعتدال في فكر الشهيد السيد محمد باقر الحكيم، على الموقع التالي في الانترنت:
http://www.al-hakim.com/?p=967d
(21) د. أبو اليزيد علي المتيت، النظم السياسية والحريات العامة، الطبعة الرابعة، الاسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، 1989، ص ص 171 ـ 172.
(22) د. عبد الجبار احمد عبد الله، آليات المصالحة الوطنية في العراق، مجلة شؤون عراقية، مركز دراسات العراق، العدد الاول، تشرين الاول 2008، ص 170.

اضف تعليق