q

ان تتحدث عن القوة الناعمة، فهذا يقودك بالضرورة للتفكير بالولايات المتحدة الامريكية، سواء بالسلب او الايجاب، وحتى بالتنظير العلمي لهذه الافكار، وتطالعنا بشكل شبه يومي الكثير من المقالات التي تتحدث عن انهيار القوة الامريكية الناعمة بسبب صعود دونالد ترامب الى سدة الرئاسة في البلاد والذي ادى بنظر الكثير الى تهديم المرتكزات الاساسية لقوة الجذب الامريكية او القوة الناعمة كما يسميها جوزيف ناي.

تقوم القوة الناعمة على الجاذبية، وليس على الإكراه (العصى) أو المال (الجزر). بحسب كتابات ناي. فهي تحتضن الناس بدلا من إجبارهم. وعلى المستوى الشخصي، يدرك الآباء الحكماء أن قوتهم ستكون أكبر وستستمر لفترة أطول إذا كانوا يمثلون القيم الأخلاقية السليمة لأطفالهم، ولن يعتمدوا فقط على الضرب أو العقوبات أو التهديد بأخذ مفاتيح السيارة.

كتب ناي في اخر مقالاته بموقع بروجكت سنديكيت إن القوة الناعمة لأي دولة تنشأ من ثلاثة مصادر: "ثقافتها (في الأماكن التي هي جذابة للآخرين)، ومن قيمها السياسية (عندما ترقى لمستوى من هم في الداخل والخارج)، ومن سياستها الخارجية (حين تكون لديها مشروعية وسلطة أخلاقية مع بعض التواضع والوعي بمصالح الآخرين). فالطريقة التي تتصرف بها الحكومة داخل البلاد (على سبيل المثال، حماية الصحافة الحرة)، وفي المؤسسات الدولية (التشاور مع الآخرين والتعددية)، وفي السياسة الخارجية (تعزيز التنمية وحقوق الإنسان) يمكن أن تؤثر على بلدان أخرى.

وعلى ضوء هذه المعايير قد تحتل امريكا مراتب متاخرة في تصنيفات القوة الناعمة، فهي من اكثر الدول التي خاضت حروبا خارج حدودها، منذ منتصف القرن العشرين ولحد الان، ولا يخفى على احد كيف تمارس سياسة ذات معيار واحد تجاه مختلف القضايا الدولية دون الاخذ بمصالح الدول الاخرى مهما كانت النتائج، حتى انها فقدت ثقة اقرب حلفائها في حلف الناتو، اذ يقول وزير الخارجية الالمانية زيغمار غابرييل في احد تصريحاته تعليقا على السياسة الخارجية الامريكية ان الالمان لم يعودوا قادرين على تحديد من يقود امريكا، ما يعني انها غير جديرة بالثقة، وهذه الاخيرة (الثقة) تعد مرتكزا اساسيا من مرتكزات الجذب، وخطوة ابتدائية لتتقدم نحو المراحل الاخرى.

في دول حلف الناتو وفي دول الخليج حتى، لم تعد امريكا مغناطيس جذب يتزاحم الجميع حول اخذ مكان الصدارة في صداقته، فهذه تركيا التي نفضت غبار التحالف مع امريكا، وفرنسا تحاول نزع ثياب الغرام مع واشنطن من خلال تعزيز الدور الاوربي بقيادة المانية فرنسية بعيدا عن امريكا التي تخلت عن اهم الاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية المناخ واتفاقيات التجارة الحرة، واخيرا محاولة تمزيق الاتفاق النووي مع ايران الذي يعد اهم اتفاقية دولية في هذا المجال.

لكن هذه الامور لا تعني شيئا برأي كريستوفر ولكر، وهو يكتب مع جوزيف ناي عن مفاهيم القوة الناعمة، اذ يفسر مفهوم النعومة والخشونة، ويتخذ من الصين وروسيا كنموذجين للقوة التي تقف في المنطقة الوسط بين النعومة والصلابة والتي تسمى القوة الحادة لانها تستخدم الضغوط الاقتصادية واجراءات الضغط الاخرى من اجل اجبار الخصوم على اتخاذ طرق تتوافق مع السياسات الصينية او الروسية.

يرى ولكر ان الانشطة العسكرية تحد كثيرا من القوة الناعمة على المستوى الدولي ويؤكد ان تدخلات روسيا في اوكرانيا وجورجيا وسوريا افقدها الكثير. من جانب اخر فان النشاط العسكري لبكين في بحر الصين الجنوبي له نتيجة مشابهة. فالتدخل العسكري يعني فقدان القوة الناعمة بحسب وجهة نظره.

وفق معايير ولكر فان امريكا قد تكون من اكثر الدول تدخلا في العالم فمنذ سقوط الاتحاد السوفيتي تدخل واشنطن في كل من الصومال والعراق وافغانستان وغزو العراق عام 2003 والحرب على ليبيا وقرض عقوبات صارمة ادت الى المجاعة في كل من ايران وكوريا الشمالية وفنزويلا والعراق ابان حكم صدام والمشاركة في دعم الحرب السورية او دعم الانظمة الاستبداية في دول الخليج والنظام العنصري في بورما او دعم الانقلاب العسكري في تركيا.

قد تكون هذه المعطيات طبيعية بل ضرورية لكسب السيطرة على العالم وامريكا غير مشمولة بانتهاك قواعد القوة الناعمة لانه لا تعنيها اصلا. فالقوة الناعمة ومهما يكن يجب ان تنطلق من نظام ديمقراطي على الطريقة الامريكية والا فانها قوة صلبة، او حادة، تؤدي الى تناقص منسوب القوة الناعمة او جفافه نهائيا بحسب تنظيرات خبراء السياسة الامريكية. وهنا تقترب النظريات العلمية في السياسة الدولية من النشاط الدعائي ما يفقدها الكثير من شرعية تفسير الوقائع، ويفقد اصحابها ما تبقى لديهم من نعومة فكرية.

اضف تعليق