إن أفضل الوعظ هو الذي يتم تطبيقه أولا من قبل الواعظ، وأفضل الكلام هو الذي يطبقه ويلتزم به القائل، وأي خلل في هذه المعادلة، فإنه سوف يمحو ثقة الناس بالقائل وبالواعظ، وان أعلى درجة للتأثير في الآخرين سوف تتحقق عندما يلتزم القائل والواعظ والمسؤول بمعادلة إقران القول بالعمل، والوعد بالتحقيق، والوعظ بالتطبيق من الواعظ قبل غيره...
(يندّد القرآن الكريم بالشخص الذي يأمر بالخير ولا يفعله)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
من أفضل الوعود تلك التي نعِدُ الناس بها ونلتزم بتحقيقها، ومن أفضل الأقوال تلك التي نقولها ونعِظ الناس بها ونقوم بتطبيقها على أنفسنا أولا، لذلك يتساءل الله تعالى في القرآن الكريم، معاتبًا أولئك الذين يقولون ويعظون الناس ولا يعملون بما يقولون، كما ورد في الآية الكريمة: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفۡعَلُونَ. سورة الصف، الآية 2 و 3).
في مثل هذا السلوك انعكاسات كثيرة، كلها تأتي بالضد من بناء الإنسان بشكل صحيح، وتعمل على إضعاف المنظومة الأخلاقية للفرد والمجتمع، فكل إنسان يدعو الآخرين للقيام بالأعمال الصحيحة عليه أن يطبّق ما قاله على نفسه أولا، وإلا لن تكون هناك فائدة من أقواله ودعوته الناس لعمل الخير، لأنه هو أول من يرفض العمل بما يقول.
وهذه دعوة صريحة للكذب على الآخرين، فما معنى أن تدعوهم لعمل الخير وأنت لا تقوم بذلك؟، وما معنى أن تعظ الناس بمواعظ الخير وأنت أول من يضربها عرض الحائط، فهذا السلوك هو نوع من الكذب الفاضح، ونوع من الخداع الذي يجعل الناس لا يقون بمن يقول الخير ولا يعمل به، بل ويُحسب هؤلاء الأشخاص بأنهم كذابون ومخادعون وليسوا أهلا للثقة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في سلسلة نبراس المعرفة: محاضرة مطابقة الأفعال للأقوال.. ضرورة إلهية:
(لقد جعل الله تعالى أهل البيت عليهم الصلاة والسلام نبراساً وضياءً وهدى للناس أجمعين. فمن صفاتهم الحميدة أنّهم كانوا ملتزمين بالعمل بما يقولون به، ومطبّقين لكلّ ما دعوا له. فإّذا أمروا بشيء كانوا هم السبّاقون له في العمل، وإذا نهوا عن شيء كانوا أول من يترك وينتهي عن ذلك الشيء، فهذه خصلة الاولياء وخصلة المقرّبين الى الله تعالى).
أهل البيت (ع) يعملون ما يقولون
القد كان أئمة أهل البيت عليهم السلام نماذج إيجابية لعموم المجتمع، يلتزمون أول الناس بما يقولونه، وفي هذا درس كبير للأفراد وغيرهم، فكل شخص مسؤول عنده وظيفة تمس حياة الناس، وجميع المنتمين إلى المجتمع، إذا التزموا بما يقولون، وطبقوه، وإذا حققوا ما يعدون الناس به، فإنهم يصبحون مراكز إشعاع أخلاقي وديني وثقافي في المجتمع.
لذلك لا يرضى القرآن الكريم عن أي قول لا يتحول من صيغته اللفظة إلى العملية، فحين نعد الناس بشيء معين، يكون هذا الوعد في بدايته عبار عن كلماته ننطقها، وفي حال بقيت كلمات لا أكثر فما الفائدة منها، لذلك إذا قلت كلاما طيبا أو جيدا عليك أن تعمل به، وفي حال حدث العكس، لن يكون لهذا الكلام المجرد من الفعل أي تأثير في الآخرين.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(لا يرضى القرآن الكريم على القول الذي لا يقترن بالعمل، ويندّد بالشخص الذي يأمر بالخير ولا يفعله، ويستهجن من ينهى عن الشرّ ويكون شريراً (والعياذ بالله). فهناك بعض الناس وللأسف يأمرون بصلة الأرحام ولا يبالون إذا انقطعت أرحامهم! ويأمرون الناس بالإخلاص ولا يخلصون لله تعالى، ويُنهون الناس عن الرّياء ويراؤون في عباداتهم وسلوكهم).
وإذا أردنا أن نعرف ما هو الفرق بين الإنسان الصالح وغير الصالح، فإن المعيار الأهم الذي يكشف هذا الفرق بين الاثنين، هو العلاقة بين القول والتطبيق، أي يتعلق الأمر بتحويل الكلام إلى عمل أو منتَج، وهذا يؤكد لنا أن الأفضلية بين الناس تكمن في تطبيقهم لما يقولون أو عدم تطبيقهم لما يقولون ويدعون له.
والحياة علّمتنا جيدا، أن نميّزَ بين الإنسان الحقيقي الصادق والجاد والمنتمي لأعمال الخير، من عكسه، لأننا نعرف جيدا ونرى بأعيننا ذلك الإنسان الذي يطالب بفعل الخير ويطبقه بنفسه، وهنالك أشخاص على النقيض من ذلك، فكل همهم أن يخدعوا الناس بكلام معسول وجميل، ثم يتوقفون عند هذه النقطة أو الحد، ولا يعملوا بما يقولون.
وقد أشار سماحة المرجع الشيرازي دام ظله إلى هذه النقطة قائلا:
(في الواقع إنّ الفرق بين الأناس الصالحين عن غير الصالحين أنّهم يقولون الكلام الجيّد ويعملون به، ولذلك فكلامهم مقبول عند الناس ويصل الى قلوبهم ويُعمل به، وأمّا غير الصالحين فلا يؤخذ بقولهم عادةً ولا يؤثّر كلامهم فيهم، لأنّهم يعلمون كذب من ينصحهم وإنّ الناصح لا يعمل بنصيحته في مقام العمل والتطبيق).
وهنا نستطيع أن نعرف طبيعة الحكام المستبدين في قضية المطابقة بين القول والعمل، فهذا النوع من الحكام غالبا لا يقرنون أقوالهم بالتطبيق، ولا يلتزمون بتحقيق ما يعدون الناس به من تحسين حياتهم وصيانة كرامتهم وحقوقهم وحرياتهم، بل تبقى مجرد كلمات جميلة يطلقها الحاكم المستبد ويعفي نفسه من تطبيقها.
الالتزام بمعادلة إقران القول بالعمل
ولأن الحاكم يقع في موقع القدوة أ النموذج للشعب، لذا فإن التزامه بمعادلة إقران القول بالعمل سوف تساعد على بناء مجتمع صادق وفاعل وملتزم، يخلو فيه الكذب والخداع، وتزداد فيه مناسيب الصدق والعلاقات المتينة بين أفراده وأناسه كلهم.
هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي حين يقول:
لذلك نرى أن (الحكام المستبدّين كلماتهم جميلة وجيّدة ونرى أوامرهم ونواهيهم سليمة في أغلب الأحيان، لكنّ العيب، أنّهم لا يطبّقون تلك الكلمات والأوامر والنواهي على أنفسهم، ولذا نرى كلماتهم غير مؤثّرة بين الناس).
لذلك ترى الناس أو عموم أفراد المجتمع، لا يثقون بالحاكم المستبد، ويرفضون ما يقول وما يعدهم به، ويعرفون بأنه يخدعهم ويكذب عليهم، فيخلوا كلامه عن أي تأثير بهم، كذلك فإن من يأمر الناس بفعل الخير عليه أن يقوم به قبل غيره، كذلك إذا دعا إلى رفض الشر ونبذه لابد أن يقوم هو بذلك قبل الناس، وإذا لم يلتزم بهذا الشرط، فكيف يلتزم به من يدعوهم إلى ذلك، هنا تأتي أهمية إقران القول بالعمل والوعود بالتحقق.
هنا سوف يراقب الناس سيرة هذا الشخص الذي يعِظهم، ويحاولون معرفة هل هو ملتزم بما يعضهم به أم أنه يجرد مواعظه من التطبيق، ولا يلتزم بها، فمهمته هنا تتوقف على اللفظ والوعظ فقط، وفي حال عدم التزامه هو شخصيا بمواعظه للآخرين، فإنهم لا يمكن أن يستجيبوا له، لأنه يحاول أن يكذب عليهم ويخدعهم.
يتساءل سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(أليس من يأمر بالخير عليه أن يعمل به، وأليس من الجميل أن يتطابق القول مع العمل، فإذا أمر بفعل الخير أن يقوم به أولاً، وإذا نهى عن الشرّ انتهى منه أولاً؟! فكيف تريد منّا أن نلتزم بمواعظك التي تعظ بها الناس وتتوقع منّا أن نؤمن بها ونحن نعلم أنّ سيرتك وعملك مخالفة لقولك؟).
وأخيرا لابد لكل إنسان أن يقرن ما يقوله بالعمل، ويطبق هذا الشيء على نفسه وأسرته ومحيطه الاجتماعي الأكبر وانتمائه القبلي أيضا، فإذا كان معلما يجب أن يعمل بما يقوله للطلاب، وإذا كان مثقفا عليه أن يعمل قبل غيره بما يدعو الناس إليه، حتى يكون نموذجا جيدا لهم.
أما المسؤول او الموظف أو صاحب المنصب الحساس أو المهم، فعليه أن يلتزم بتطبيق كلامه وقراراته الحقوقية والإدارية على نفسه قبل غيره، وحينئذ سوف يكون لكلامه صدى في نفوس الناس، لأنهم يلاحظون التطبيق المتساوي على الجميع، ولا فرق بين شخص أو آخر، حتى عندما يعلق الأمر بأولاده أو ذويه أو المقربين منه، فهو ملتزم بمساواة التطبيق على الجميع، في هذه الحالة سوف ينظر إليه الجميع باحترام وتقدير عالٍ.
حيث يطالب سماحة المرجع الشيرازي دام ظله قائلا:
(على الإنسان أن يُقرن أقواله بأفعاله، وأن يبدأ بذلك من أسرته ومجتمعه وعشيرته، فإن كان معلّماً عليه أن لا يأمر تلاميذه بأقوال يؤمن بها ولا يطبّقها على واقع حياته. وإن كان له منصب حكومي عليه أن يلتزم بما يصدره من أوامر ونواهي وأن تكون القوانين مطبّقة على الجميع).
لهذا فإن أفضل الوعظ هو الذي يتم تطبيقه أولا من قبل الواعظ، وأفضل الكلام هو الذي يطبقه ويلتزم به القائل، وأي خلل في هذه المعادلة، فإنه سوف يمحو ثقة الناس بالقائل وبالواعظ، وان أعلى درجة للتأثير في الآخرين سوف تتحقق عندما يلتزم القائل والواعظ والمسؤول بمعادلة إقران القول بالعمل، والوعد بالتحقيق، والوعظ بالتطبيق من الواعظ قبل غيره.
اضف تعليق