ثقافة الإعانة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

المجتمع الذي يستثمر ثقافة الإعانة، ويطورها ويتمسك بها، ويعتمدها في علاقات أفراده، فإنه يعدّ من المجتمعات الحضارية الراقية، حيث يكون الناس متعاونين فيما بينهم، تسودهم المحبة والتعامل السليم، وتكون ثقافة الإعانة حاضرة بينهم، تنظم حياتهم، وتجعلهم في أوضاع معيشية منتظمة تنتهي بهم إلى الانتماء للمجتمعات المتحضرة...

(المجتمعات التي تساند وتُعِين بعضها البعض هي مجتمعات سليمة متقدّمة حضارية)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

الإعانة غصن من شجرة التعاون، هكذا يصفها أحد الكتاب، والإعانة هي أن تعين أحدا على شيء لا يمكنه الحصول عليه أو الوصول إليه، وتأتي أنت لتقوم بفعل المعاونة، وتعاونه وتعينه على تحقيق ما يصبو إليه، وبهذه الطريقة تكون قد أسديت له عملا كريما، وقضيت له حاجة لم يكن بمقدوره إنجازها لصعوبتها عليه، أو لأنه لا يمتلك القدرة على إنجازها.

وهكذا فإن حياة البشرية كلها تقوم على هذا النوع من التعاون، الذي لولاه لما وصلت الإنسانية إلى وصلت له اليوم من منجزات هائلة، كلها تقريبا تحققت بفعل ظاهرة الإعانة التي يسديها الناس إلى بعضهم بعضا، فهذا يعينُ ذاك، وهؤلاء يعينون أولئك من البشر، وقد يوجد الإنسان الذي يمكنه إنجاز عمله بلا طلب إعانة وهذا أمر وارد، لكن يبقى التعاون بين الناس أحد أهم الطرق التي من خلالها يتم إنجاز الأهداف الفردية والمشتركة.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في إحدى محاضراته ضمن سلسلة المحاضرات الموسومة بـ (نبراس المعرفة، عنوان المحاضرة: إعانة المسلم):

(إن معنى التعاون، هو أن يعين كلّ واحدٍ منّا أخاه المسلم، في أموره، فهو يعينك وأنت تعينه في أمور أخرى، أو تقوم بإعانته لأنه يحتاج إليك، ولا يعينك لأنك لا تحتاج إليه، وهكذا).

وقد ثبت من تجارب الحياة العملية، أن هنالك الكثير من الحاجات لا يمكن أن يقوم بها الإنسان بمفرده لأسباب كثيرة، فعملية الإنجاز تحتاج إلى أدوات و وسائل مختلفة، منها المعونة المادية، والمعونة الفكرية، والمعونة التجريبية، والمعونة العضلية، إلى آخره من أنواع المعونة التي يحتاجها معظم الناس لإنجاز أهدافهم أو أعمالهم.

خطوات نشر ثقافة التعاون

لهذا يجب أن تسود حالة التعاون بين الناس، وفي الغالب عندما تقدم معونة معينة إلى أحدهم، فسوف يرد لك هذا الفعل، بل ويبادر بتقديم الإعانة للآخرين، لأنه سبق أن حصل عليها، وهذا يعني انتشار ثقافة الإعانة بين الناس من خلال التأثر المتبادَل فيما بينهم، وهذه الثقافة هي نوع من التربية التي يكتسبها الإنسان من محيطه الاجتماعي العائلي (من الأسرة)، أو من بيئته الاجتماعية الأوسع ونقصد بها من المجتمع.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(هناك حاجات دنيوية مختلفة لدى المسلمين تبقى معطلة لا يستطيعون تسديدها وتأمينها وتوفيرها بمفردهم لأسباب مختلفة. ولذا لابد هنا إلى من يقوم بمساندتهم وتأمين حاجاتهم وتوفير مستلزماتهم لإنجاز هذه الأعمال بشتى وأنواع وأقسام الإعانة).

من أنواع الإعانة عندما يتوسط شخص معين بين من يحتاج الإعانة ولا يمتلكها، وبين الإنسان القادر على تقديمها، أي يقوم بالتوسّط بين من يحتاج الإعانة وبين من يمتلكها فيقدمها لمن يحتاجها، وهذا العمل أو الفعل يسمى بالتوسط بين الطرفين، حيث يكون الوسيط محل ثقة الطرفين، ويقدم لهما فائدة مزدوجة.

فمن ناحية يكون سببا في حصول العامل العاطل على عمل مقابل أجر، وفي نفس الوقت يتحقق لصاحب الحاجة ما يريده في مسألة إكمال حاجته في هذا المجال أو ذاك، وهذا النوع من التعاون يحقق أهدافا فردية وجماعية مهمة جدا، وينشر ثقافة الإعانة بين الناس بشكل كبير، لاسيما أن المسلمين يمتلكوا ثقافة الإعانة من دينهم ومن أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين نشروا هذه الثقافة كإحدى أهم ما يقدمه الإسلام للمسلمين وللبشرية كلها.

علما أن مجمعنا يعج بمثل هذه الإعانات، فهناك الكثير من الناس يتوسطون لعمال عاطلين، يجدون لهم الأعمال المناسبة، فيحققون لهم مصدر رزق كريم، وفي نفس الوقت هم يقدمون فائدة للشخص الذي يحتاج للعمال حتى ينجز مشروعه أو عمله، هنا تتجسّد ثقافة الإعانة بصورة فعلية في داخل المجتمع وتثمر نتائج جيدة لجميع الأطراف.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي دام ظله، حين يقول: 

(ثمّة أشخاص بحاجة إلى عاملين وموظفين ولا يعرفون أحداً يتوسّط بينهم، فيأتي شخص ثالث يعين ذلك العاطل عن العمل ويكون سبباً وواسطة في توظيفه، فيعرّفه لصاحب العمل ويقوم بتوثيقه وتعريفه، فيخرج العامل عن البطالة ويؤمن صاحب العمل النقص في العمالة. وهناك أمثلة كثيرة على مثل هذه الإعانات وما لها من الفضل والأجر العظيم).

 من المؤسف حقا أن لا نجد تأثيرا لثقافة الإعانة في المجتمع، وهذا ينعكس سلبا على ذلك المجتمع، بسبب غياب أو ضمور ثقافة التعاون أو الإعانة، وقد ثبت فعليا أن المجتمعات التي تغيب فيها ثقافة الإعانة، هي مجتمعات ضعيفة، مفككة، تسودها الأزمات والمشكلات، ولا تنعم بثقافة الإعانة التي تشكل حلولا ناجعة لأزماتها ومشكلاتها.

أما المجتمع الذي يستثمر ثقافة الإعانة، ويطورها ويتمسك بها، ويعتمدها في علاقات أفراده، فإنه يعدّ من المجتمعات الحضارية الراقية، حيث يكون الناس متعاونين فيما بينهم، تسودهم المحبة والتعامل السليم، وتكون ثقافة الإعانة حاضرة بينهم، تنظم حياتهم، وتجعلهم في أوضاع معيشية منتظمة تنتهي بهم إلى الانتماء للمجتمعات المتحضرة.

صناعة المجتمع الحضاري المتعاوِن

على العكس من أفراد المجتمع غير المتعاون، يفتقد للحضارة، وتسوده النزاعات والمشاكل، فيكون مجتمعا مفكّكا، في حين نجد المجتمعات المتعاونة تستثمر ثقافة الإعانة بأقصى درجاتها وتحصل على صفة المجتمعات الحضارية بجدارة، كونها تميل إلى تفضيل المصالح العامة على المصالح الخاصة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله حول المجتمع المتقدّم والمجتمع المتفكّك:

(المجتمعات التي تساند وتُعِين بعضها البعض هي مجتمعات سليمة متقدّمة حضارية، ومثل هذه المجتمعات تستطيع أن تفتح لنفسها مساحة ومكانة ووجودا في التأريخ، ويكون تأثيرها عالياً بين الأمم والحضارات، بعكس المجتمعات المتفككة التي لا تساند ولا تُعين بعضها البعض، حيث إن الأفراد في هذه المجتمعات تصرف طاقاتها في مصالحها الشخصية الضيقة ولا تعتني بمصالح الآخرين وشؤونهم قيد أنملة).

لهذا السبب تنهار المجتمعات التي لا تترك مجالا لثقافة الإعانة في علاقاتها وفي تنظيم حياتها، لذلك تكون متأخرة، ولا تنتمي إلى تلك المجتمعات التي تجعل من التعاون سمة حضارية لها، فنجدها مجتمعات فاشلة، ضعيفة في علاقاتها المتبادلة، وعاجزة عن استثمار ثقافة الإعانة بالشكل الصحيح والمثمر. و (هذه المجتمعات ونتيجة لهذه النظرة الضيقة تكون في الإجمال متأخّرة ومنهارة ولا مكانة مرموقة لها بين المجتمعات الأخرى) كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).

ولذلك هناك تأكيد كبير للرسول صلى الله عليه وآله، ولأهل البيت عليهم السلام، على ترسيخ ثقافة الإعانة في التعاملات المجتمعية المختلفة، فهذه في الحقيقة هي ثقافة أهل البيت، وقد طالبوا باعتمادها في حياة المسلمين، بل والبشرية كلها لكي يعيش المجتمع البشري كله في حالة من التعاون المشترك تقضي على جميع الأزمات والمشكلات.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(هذه هي ثقافة الإسلام التي يتطلّع لها رسول الله صلى الله عليه وآله ويؤكد عليها العترة الطاهرة صلوات الله عليهم في أحاديثهم وأقوالهم، ألا وهي ثقافة الإعانة).

لهذا من الأفضل للمجتمع أن ينشر ثقافة الإعانة عبر الممكنات التالية:

- نشر ثقافة الإعانة عبر المدارس في مختلف المراحل.

- تشجيع المحيط العائلي على التبشير بهذه الثقافة وتربية الأولاد عليها.

- تعليم المراحل العمرية هذه الثقافة، وترسيخها في عقولهم بالإقناع.

- تنظيم الحملات الثقافية التي تركز على تعميم ونشر ثقافة الإعانة.

- تحمّل المنظمات والمؤسسات ذات العلاقة مسؤولياتها في هذا المجال.

وأخيرا لابد أن يتحمل كل فرد مسؤولية في استثمار وتطوير ثقافة الإعانة في تعاملاته مع الآخرين، لكي يسهم بصناعة المجتمع الحضاري القائم على التعاون بأشكاله كافة.

اضف تعليق