q
السيرة الاجتماعية للصديقة الزهراء تفيدنا في حل مشكلة التمحور حول الذات، وانتشار حالة الفردية بين افراد المجتمع، وأول من يستفيد من هذه التجربة؛ الشباب، كونهم عصب حياة الأمة، و أكثرهم حاجة للتفاعل والانسجام والتفاهم بما يفيدهم في بناء شخصيتهم، ثم التحول الى مرحلة العطاء...

"أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا".

الإمام الرضا، عليه السلام

وجّه أحد المقربين سؤالاً الى الإمام الرضا، قال: "يا بن رسول الله، وكيف يُحيي أمركم؟ قال الإمام الرضا: أن يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فان الناس لو عرفوا محاسن كلامنا لاتبعونا".

وهذا يبين أننا امام مثلث معرفي متشكل من؛ الضلع؛ القاعدة، متمثلاً بمصدر المعرفة وهو الإمام المعصوم، ثم الضلع الآخر المتمثل بالتراث (محاسن كلامنا)، بكل ما يضم من علوم وأحكام وآداب، ثم ضلع الأمة (الناس)، والشباب هم الشريحة الأكثر تفاعلاً في الأمة مع المعارف والعلوم والآداب التي من شأنها صياغة شخصيتهم ورسم ملامح مستقبلهم، فهم أكثر من يحب المطالعة، والتعلّم، والتعرّف على الأشياء والمستجدات، وهو فضول غريزي مستصحب من مرحلة الطفولة، فاذا سمعنا من أحدهم يبحث عن محاسن كلام أئمتهم و رموز عقيدتهم في مجالس الذكر والوعظ، ومن منابر الخطباء في مناسبات كالتي نعيشها هذه الأيام، وهي ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء حسب الرواية الثالثة، فهو أمرٌ مستحسن يبعث على الأمل بوجود روح ايجابية في نفوسهم ترنو الى التنمية والتطور بالاستلهام من تجارب تحاكي أهم مقومات حياة الانسان مثل؛ الحق والفضيلة والكرامة.

إن شباب اليوم –لاسيما في العراق- أدرك حقائق جوهرية وسط ضجيج السياسة والحكم، بأن المال الحلال لا يكون مع الخداع، والعلم والثقافة لا تستقيم مع التضليل، والحرية توأم المسؤولية، والخبز مع الكرامة، وهذا ما ألمسه من حضور فاعل لشباب متعلم في المجالس الفاطمية منذ حوالي شهر ونيّف، بين مشارك في إعداد الديكور لطقس تاريخي جذاب داخل قاعة المجلس، مثل إنشاء بيت مشابه لما كان للصديقة الزهراء، وفي إعداد مستلزمات المجلس، وبين من يحضر وبأعداد غفيرة من مناطق نائية في هذه الليالي الباردة للاستماع الى خطباء المنبر حول شخصية الصديقة الطاهرة، والمواضيع المرتبطة بهذه الشخصية العظيمة.

معظم هؤلاء الشباب يواصلون دراستهم في مراحل حاسمة مثل البكلوريا في الاعدادية او في الجامعة، ومنهم قادم من أماكن عمل حصلوا عليها بشقّ الأنفس بعد تخرجهم من الجامعة، كل هذا لم يمنعهم من المشاركة في إحياء أمر أهل بيت رسول الله، كما أوصاهم الامام الرضا، عليه السلام، وأكد ليّ أكثر من شاب أن الساعات التي يقضيها في الاسهام بإقامة هذه المجالس لا تؤثر سلباً على مسيرته الدراسية والعلمية والمهنية بأي شكل من الاشكال، إن لم تكن سبباً في التوفيق والنجاح، كما ذكر لي أحدهم.

من مجمل الأجواء الفاطمية يمكن بلورة ثلاث مسارات تشقها هذه المجالس في حياة الشباب بفضل المنبر الواعي والمسؤول الذي يكون مصداق حديث الامام الرضا، عليه السلام:

أولاً: العلاقة مع الله

إنها العقيدة والبنية التحتية لفكر الانسان، ومساعدته على حل اسئلة عديدة مثل؛ سبب خلق الانسان ووجوده في هذه الحياة؟ وفلسفة الرسالات السماوية، وأن يتبع الانسان نبياً او إماماً وهو انساناً مثله؟ ولماذا يجب عليه أن يُؤمن وأن يَكفُر في آن واحد؟!

المنبر الواعي يُسهم في توثيق العلاقة بين الجسد والروح، هذا الثنائي الأساس في وجود الانسان، ويبين السبل الكفيلة لتلبية حاجات الاثنين بشكل متوازن، وقد نجح في ذلك من خلال إقامة حلقات نقاش وتبادل الأسئلة والاجوبة بين الشباب والخطيب بعد إتمامه المجلس.

وهذا يعني أن الشباب يكتسبون المعارف الدينية الى جانب المعارف الدنيوية والعلوم التجريبية والانسانية، ويعدون أحدهما مكملاً للآخر.

ثانياً: العلاقة مع النفس (الذات)

إنها ساعة او ساعتين لا أكثر تستغرقها المجالس الفاطمية، بيد أنها تضخ كمّاً هائلاً من المشاعر الايجابية كالأمل، والثقة بالنفس، واستثمار الفرص، واحترام الوقت.

ولعل من يسأل؛ كيف يكون كل هذا وسط أجواء الحزن والبكاء على مصيبة الصديقة الزهراء، كما لو أن المجالس الفاطمية وايضاً الحسينية مخصصة لاستدرار الدموع وإثارة المشاعر العاطفية إزاء ظلامات أهل البيت، وإن كان البكاء في مناسبات حزينة نوعاً من المواساة والتضامن مع القضية، بيد أن ليس كل شيء، والدليل من كلام ومواقف أهل البيت أنفسهم، وتحديداً الصديقة الزهراء في خطبتها الفدكية المشهورة، وأحاديثها المسجلة في التاريخ مع النساء والرجال في الايام الاخيرة من حياتها، كلها دروس وعِبر تفيد الإصلاح والتنمية في مجالات الحياة كافة، حتى التقريع الوارد في خطبتها الشهيرة في مسجد رسول الله أمام جموع المسلمين، فانها استنهضت فيهم روح التحضّر والإيمان، وذكرتهم بماضيهم الأليم، وكيف أنهم يرفلون بنعمة الإسلام بفضل تضحيات أبيها رسول الله و زوجها أمير المؤمنين.

ثم إن المناسبة ليس بالضرورة ان تختزل في المُصاب، وما جرى على الصديقة الطاهرة من انتهاك لحرمتها وحرمة دارها، إنما تضم منظومة معرفية كاملة لحياة هذه الشخصية الفذّة والاستثنائية، منذ نعومة أظفارها وهي طفلة صغيرة تحوم حول أباها في مكة وسط تهديدات المشركين واستفزازاتهم، وحتى بلغت سن الرشد، ثم حياتها الزوجية وعلاقاتها مع الجيران، ومع افراد المجتمع، كلها تمثل خطوات عملية تفيد بناء الشخصية والذات بما يفيد الانسان لنفسه وللآخرين.

ثالثاً: العلاقة مع المجتمع

هنا لابد من وقفة تأمل في طريقة تعامل الصديقة الزهراء مع المجتمع بشكل عام، وهي الابنة الوحيدة لرسول الله، وهو خاتم الانبياء والمرسلين، و حصل أن تملّكت أرض زراعية واسعة جداً تُسمى "فدك"، وهبها إياها أباها رسول الله بعد مصالحة مع اليهود الذين تنازلوا عن هذه المزرعة الغنية والوفيرة بالمحاصيل الزراعية، مقابل الأمان.

وهذا يعني أن الصديقة الزهراء كانت غنيةً بالفعل، وكان بإمكانها التمتع بالمجوهرات والطعام والشراب والأثاث الوثير والدار الجميلة دون أن يلومها أحد، فهو مالها وهي حرة في التصرف به –كما هو المبدأ الدارج حالياً- بيد أن مبدأ فاطمة شيء آخر، فقد واصلت عيش الكفاف والقناعة والرضى، والنظر بعيداً الى أدنى حالة معيشية لافراد المجتمع، كانت تعطيه ما يفترض ان تجعله طعاماً ولباساً واسباب للراحة لها ولأولادها.

السيرة الاجتماعية للصديقة الزهراء تفيدنا في حل مشكلة التمحور حول الذات، وانتشار حالة الفردية بين افراد المجتمع، وأول من يستفيد من هذه التجربة؛ الشباب، كونهم عصب حياة الأمة، و أكثرهم حاجة للتفاعل والانسجام والتفاهم بما يفيدهم في بناء شخصيتهم، ثم التحول الى مرحلة العطاء، كأن يكون الشاب في مقام الطبيب، او المهندس، أو الاستاذ في المدرسة والجامعة، او حتى الكاسب في السوق، وصولاً الى المسؤول في الدولة.

اضف تعليق