ما الذي يدفع البعض لأن يتناول الاطعمة والأشربة أمام أنظار الصائمين في نهار شهر رمضان المبارك؟، نعم؛ هنالك علّتان للإفطار حددهما القرآن الكريم بالنصّ: {ومن كان منكم مريضاً او على سفر فعدةٌ من أيام أخر}، والفئتين من الناس بإمكانهما تناول الطعام والشراب في أي مكان يريدان، سوى مكان واحد فقط يتواجد فيه الصائمون.

نسمع عن "احترام الشهر الفضيل" أو "احترام مشاعر الصائمين"، فما تعني هذه العبارات؟، ربما ينصرف الذهن الى الجانب العاطفي، بيد إن جوهر القضية يعود الى فلسفة الصوم ومقاصدها، فبعد ان قرأنا الفريضة في القرآن الكريم، قرأنا الآثار النفسية والصحية والاجتماعية وحتى الحضارية على الانسان الصائم، في الروايات المنقولة عن المعصومين، عليهم السلام، ولعل أبرزها: "من صام صامت جوارحه".

هذا الحديث وأمثاله كثير، يغيب عن الساحة التي تشهد كل شهر رمضان، اجراءات حكومية لردع المتجاهرين بالافطار في الاماكن العامة، كما لو أن هنالك رعاية حكومية خاصة للممتنعين عن الأكل والشرب من الناحية النفسية، لئلا يتعرض لهم أحد لخدش مشاعرهم وتذكيرهم بما هم ممنوعون عنه – مثلاً!!.

في حين المعروف عن الصوم في شهر رمضان، وايضاً في سائر ايام السنة، أنه يمثل رياضة نفسية وروحية لاختبار قوة الارادة على ترك المحرمات والمعاصي بين العبد وربه، وايضاً تجنب الأخطاء في العلاقة بين هذا الانسان الصائم وبين محيطه الاجتماعي، بمعنى أن الصوم عن الطعام والشراب، هو مقدمة للصوم عن كل ما يمثل انحرافاً في السلوك الاجتماعي القويم، من خلال السمع والنظر والكلام.

هذا في شهر رمضان المبارك، حيث أداء الفريضة بشكل جماعي تقتضي تضامناً جماعياً ايضاً مع ما يمكن تسميته بالحملة التربوية والنهضوية لمراجعة النفس وتقويم السلوك، كذلك الحال بالنسبة لمن يصوم في أشهر السنة الاخرى، لاسيما في بعض المناسبات المسنونة، فانه يحظى بتعامل خاص من المحيطين به، كونه تطوّع لما فيه الخير والصلاح لنفسه وللآخرين، فهو عندما يخوض – تطوعاً- دورة للتهذيب النفسي، فانه بذلك يزرع بذرة صالحة وسط المجتمع يزيد فيه التعامل الاخلاقي والانساني، وتتراجع فيه الظواهر السلبية والكارثية التي تعاني منها مجتمعاتنا مثل الكذب والخيانة والظلم بكل اشكاله، وغيرها، وهذا إن صحّ في التجربة الفردية، فانه يصدق قطعاً في التجربة الجماعية خلال شهر رمضان المبارك.

الردع بين الوجدان والقانون

منذ أيام الدراسة في المرحلة الابتدائية، كنا نسمع من المعلمين – وبسبب ضجرهم من تكاسل بعض التلاميذ عن أداء واجباتهم المدرسية- المثل العراقي الشائع: "الذي لا يفيده مرضعه سوق العصا لا ينفعه"، كما نقرأ المثل العربي المعروف بأن "العبد يُقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة"، بمعنى أن اجراءات الردع الحكومية لمن يتجاهر بالافطار في شهر رمضان يجب ان تأتي في آخر قائمة الاجراءات المتبعة لمعالجة هذه الظاهرة.

فاذا اتفقنا على أن القضية تتعلق بمشروع تغيير اجتماعي عام، فان المحافظة على سلامة هذا المشروع يجب ان يأتي من المجتمع، لا أن تكون وزارة الداخلية وحدها في الساحة تتحرك وتوعز الى مفارز الشرطة لأن تداهم المطاعم او تعتقل باعة المشروبات وغير ذلك، علماً أن الوزارة أعلنت أنها تطبق القانون العراقي الذي ينص على معاقبة المتجاهر بالافطار في شهر رمضان بالسجن والغرامة.

هذا القانون الرادع له أثر وقتي، مع ضرورته الآنية، بيد أنه بحاجة الى معاضدة من روادع اخرى من داخل المجتمع، فالذي يخرج من بيته ويريد ان يتناول الطعام والشراب في الاماكن العامة، عليه أن يحترم الناس من حوله، قبل ان يخشى القانون وعقوبته، فالذي يستحي لن يفعل ما يحلو له، هذا الحاجز (الحياء والاحترام والعيب) هو الذي يجب ان ينمو في اوساطنا الاجتماعية، عندها لن نكلف الشرطة عناء البحث عن المفطرين جهاراً، كما لو أنهم يبحثون عن مجرمين! إنما تكون مهمتهم؛ الدعم والإسناد القانوني.

ولعل المعاصرين لسني السبعينات يتذكرون، كيف أن النساء القادمات من العاصمة بغداد الى كربلاء المقدسة ، كن يصطحبن العباءة في حقائبهن، وما أن يترجلن من الحافلة في منطقة "باب بغداد" حتى يرتدينها، مع إن معظمهن من المحجبات ولسن كاشفات الرأس، مع ذلك؛ كان الحواجز النفسية المتكونة من الجو الاجتماعي السائد آنذاك، هو الذي يدعوهن الى الالتزام بالحجاب الكامل وهو نفسه الذي نشهد الدعوات بأصوات عالية للإلتزام به بعد الاطاحة بنظام صدام، ولا نلاحظ ذاك الالتزام حتى في المدن المقدسة.

وعليه؛ فان الشرطة او الحكومة او حتى القانون، لن ينجحوا جميعاً في تطبيق فريضتي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما بامكان كل فرد أن يذكر مفطراً على الرصيف، او رجلاً يدخن السيجارة او مطعماً يقدم وجبات الغذاء للمسافرين، بأن يراعوا مشاعر الصائمين، عندها ستختفي ليس فقط المطاعم وإنما حتى المتجاهر بالافطار عمداً لانه سيجد نفسه ليس في مواجهة الشرطة والدولة، وإنما المجتمع باكمله.

لا لإقحام الحرية

اذا تأملنا في الغايات القصوى من الصوم، نجد منها؛ الحرية، كيف؟!، فهل الحرية دائماً قضية سياسية نطلبها من الحاكم؟، إن عديد الانظمة التي ننعتها بالديكتاتورية بامكانها ان تمنح بعض الحريات للناس بما يشبع حاجاتهم ورغباتهم، فيكونوا ممتنين لهذه "المكرمة"، ولن يكونوا بحاجة لأن يصدعوا رؤوسهم بالاقتراب من كرسي الحكم، حتى وأن شعروا بالقيود في مواضع اخرى، ولكن؛ ماذا عن النفس الانسانية عندما تكبل صاحبها بقيود هائلة، فهو عديم الإرادة أمام الغريزة الجنسية، وأما نزعة التملّك وحب الأنا وحب الرئاسة والتسلّط وغيرها، فهو مقيّد مسيّر الى حيث لا يدري ما تكون العاقبة، فهو يعيش يومه ويسعد في اللحظة الراهنة، ولا عليه بما يحصل غداً، له ولمحيطه الاجتماعي.

لذا علينا الانتباه من بعض محاولات المزايدة على مفاهيم انسانية مقدسة، مثل الحرية الفردية التي ضمنها الاسلام في نظامه الاجتماعي والسياسي وفق قواعد عقلية ومنطقية منها "لا ضرر ولا ضرار"، أما ما يقوم به الانسان في بيته او مكانه الخاص به، فذاك يعود اليه، ولا يحق لأحد التدخل في شؤونه او التلصص عليه.

أما عن حرية التكسّب والاسترزاق، فمن غير المعقول الحديث عن حصول مجاعة او مشكلة معيشية او اجتماعية اذا لم يبيع البعض قناني المياه الباردة في الشوارع، او يؤجل صاحب المطعم والكافتريا ومحلات العصائر وغيرها، عملهم الى ما بعد أذان المغرب، فالوقت مفتوح أمامهم من هذه الفترة وحتى لحظة أذان الفجر.

للأسف البعض ممن يحمل قلماً وفكراً نراه حتى في شهر رمضان المبارك، مسكوناً بالرعب السياسي أو ربما "فوبيا السياسة" إن صحّ التعبير، يقرأون كل شيء بمنظار سياسي، كما لاحظنا بعض القنوات الفضائية تستفيد من أجواء شهر رمضان لابتداع برامج تفاعلية مثيرة بمسميات رمضانية مثل "سحور سياسي"، في حين مجتمعاتنا، وتحديداً المجتمع العراقي، يجد في هذا الشهر الكريم، فترة نقاهة واستراحة مما أجهده خلال أشهر السنة من كد وتعب لتلبية حاجاته المعيشية، وما عاناه من الفشل الحكومي القاتل، فيجد في الايادي البيضاء التي تمتد اليه بـ"السلّة الرمضانية" مثلاً، او الزيارات التفقدية ومجالس الذكر وزيارة العتبات المقدسة وغيرها، ما يهدئ خاطره ويعزز الثقة بنفسه وبالمستقبل، لا أن ينسحب دخان الازمات النفسية والسياسية و...غيرها على أجواء هذا الشهر الفضيل.

اضف تعليق