q
ملفات - شهر رمضان

صيام شهر رمضان والغايات الكبرى

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ، السَّنةُ الحادِيةُ عشَرَة (١)

حذَّرَ أَئمَّةُ أَهلُ البيت (ع) من مغبَّةِ تحويلِ العِباداتِ إِلى عادةٍ في حياتِنا نستَوحِشُ إِذا لم نُؤَدِّها ونشعرُ بنقصٍ في شيءٍ ما إِذا لم نُمارسها! لأَنَّها، بهذهِ الحالةِ، ستفقدُ جوهرَها ومُبتغاها وتتحوَّل إِلى رياضاتٍ روتينيَّةٍ لا تُغني ولا تُسمِنُ من جوعٍ ولا تترك أَيَّ أَثرٍ...

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

 هذا يعني أَنَّ الصِّيامَ لا يُرادُ لذاتهِ وإِلَّا تحوَّلَ إِلى جُهدٍ لتقليلِ الوزنِ مثلاً! وإِنَّما لهدفٍ أَكبر وغايةٍ أَسمى هي التَّقوى على المُستويَينِ الفَرد والجَماعة [المُجتمع أَو الأُمَّة].

 وهو حالُ كُلِّ فرُوعِ الدِّين الأُخرى كالصَّلاةِ {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ} والحجِّ {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} والحُقُوق {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فهي عباداتٌ نُتمِّمَ فيها مكارِمَ الأَخلاقِ ونُقوِّمَ بها السلوكيَّاتِ ونُزكِّي بها النَّفس.

 وفي خُطبةِ سيِّدةِ نساءِ العالَمينَ فاطمةَ الزَّهراء (ع) توضيحٌ كافٍ لهذهِ الفلسفةِ بقَولِها (ع) {فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق، والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ، وَالعَدْلَ تَنْسيقاً لِلْقُلوبِ، وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهادَ عِزاً لِلإْسْلامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ، وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ، وَبِرَّ الْوالِدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الأَرْحامِ مَنْماةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصاصَ حِصْناً لِلدِّماءِ، وَالْوَفاءَ بِالنَّذْرِ تَعْريضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكاييلِ وَالْمَوَازينِ تَغْييراً لِلْبَخْسِ، وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنابَ الْقَذْفِ حِجاباً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجاباً لِلْعِفَّةِ. وَحَرَّمَ الله الشِّرْكَ إخلاصاً لَهُ بالرُّبُوبِيَّةِ، {فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَأطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه {إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ}}.

 وفي نفسِ المعنى قولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) في بيانِ تعليلِ العباداتِ سِلباً وإيجاباً {فَرَضَ اللَّه الإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ والصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ والزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ والصِّيَامَ ابْتِلَاءً لإِخْلَاصِ الْخَلْقِ والْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ والْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلَامِ والأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَوَامِّ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ رَدْعاً لِلسُّفَهَاءِ وصِلَةَ الرَّحِمِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ والْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ وإِقَامَةَ الْحُدُودِ إِعْظَاماً لِلْمَحَارِمِ وتَرْكَ شُرْبِ الْخَمْرِ تَحْصِيناً لِلْعَقْلِ ومُجَانَبَةَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ وتَرْكَ الزِّنَى تَحْصِيناً لِلنَّسَبِ وتَرْكَ اللِّوَاطِ تَكْثِيراً لِلنَّسْلِ والشَّهَادَاتِ اسْتِظْهَاراً عَلَى الْمُجَاحَدَاتِ وتَرْكَ الْكَذِبِ تَشْرِيفاً لِلصِّدْقِ والسَّلَامَ أَمَاناً مِنَ الْمَخَاوِفِ والأَمَانَةَ نِظَاماً لِلأُمَّةِ والطَّاعَةَ تَعْظِيماً لِلإِمَامَةِ}.

 وقولهُ (ع) {ولِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ وزَكَاةُ الْبَدَنِ الصِّيَامُ} أَي أَنَّ الصِّيامَ يُطهِّرُ الجسدِ مِن منبتِ الحرامِ عن غَيرِ قصدٍ.

 ولذلكَ حذَّرَ أَئمَّةُ أَهلُ البيت (ع) من مغبَّةِ تحويلِ العِباداتِ إِلى عادةٍ في حياتِنا نستَوحِشُ إِذا لم نُؤَدِّها ونشعرُ بنقصٍ في شيءٍ ما إِذا لم نُمارسها! لأَنَّها، بهذهِ الحالةِ، ستفقدُ جوهرَها ومُبتغاها وتتحوَّل إِلى رياضاتٍ روتينيَّةٍ لا تُغني ولا تُسمِنُ من جوعٍ ولا تترك أَيَّ أَثرٍ في حياتِنا.

 فعن رسولِ الله (ص) أَنَّهُ قالَ {لا تنظرُوا إِلى كَثرةِ صلاتهِم وصَومهِم وكثرةِ الحجِّ والمعرُوفِ وطنطَنتهِم باللَّيلِ، ولكنِ آنظرُوا إلى صدقِ الحديثِ وأَداءِ الأَمانةِ} وقولُ حفيدهُ الإِمام جعفَر بن مُحمَّد الصَّادق (ع) {لا تغترُّوا بصلاتهِم ولا بصيامهِم، فإِنَّ الرَّجلَ رُبَّما لهجَ بالصَّلاةِ والصَّومِ حتَّى لَو تركهُ آستوحَشَ، ولكنْ إِختبرُوهُم عندَ صدقِ الحديثِ وأَداءِ الأَمانةِ}.

 بمعنى آخر فإِنَّ الصِّيام الذي لا يُحقِّق هذا الهدَف لا خيرَ فيهِ، فمَثلهُ كمَثلِ مَن يستأجرَ سيَّارةً ليُسافِر بها من بَغداد إِلى الموصِلِ، لكنَّهُ في لحظةِ السَّفرِ يكتشِف أَنَّها لا تشتغِل لسببٍ أَو لآخر، ما يعني أَنَّهُ دفعَ ثمَن استِئجارها من دونِ فائدةٍ كما أَنَّهُ فشلَ في الوصُولِ إِلى هدفهِ [الموصلِ] الذي ابتغاهُ من إِستئجارِ السيَّارةِ.

اضف تعليق